تقع مدينة كربلاء في وسط العراق على الحافة الشرقية للهضبة الصحراوية الغربية، عند ملتقى البادية بالسهل الرسوبي، على بعد نحو (105 كم) جنوب غربي العاصمة بغداد، وعلى الجهة اليسرى من جدول الحسينية المتفرع عن الفرات. هذا الموقع المتميز منحها عبر التاريخ بعدًا جغرافيًا ودينيًا انعكس بشكل مباشر على دورها التجاري.
قبل الفتح الإسلامي لم تكن كربلاء سوى قرية صغيرة تحيط بها المزارع، وسكانها يعملون بالزراعة، لكنها مع العهد الأموي أخذ صيتها يذيع، لتصبح محطة للتجارة والقوافل بفضل مكانتها الدينية وموقعها الزراعي المتنوع. ومنذ ذلك الحين أخذت المدينة مكانتها كإحدى المراكز المهمة في العالم الإسلامي، حيث وفدت إليها الرحلات للتجارة وطلب العلم وزيارة مراقدها المقدسة.
ويؤكد المؤرخون أن كربلاء شكلت بوابة للتجارة الخارجية نحو الجزيرة العربية، كما مثلت طريقًا للحج البري ومركزًا للتبادل التجاري بين البدو والحضر وأهل الريف. وقد كان لوجود مرقدي الإمام الحسين وأخيه العباس أثر بارز في ازدهارها الاقتصادي والاجتماعي، إذ اجتذبت الزائرين والتجار على حد سواء.
شهدت المدينة خلال حكم الأسرة الجلائرية (1336م – 1432م) توسعًا عمرانيًا ملحوظًا، فازدادت مساحتها وشيدت فيها مدارس ومنشآت دينية وتجارية. هذا التطور ساعد على تعزيز الحياة الحضرية، وأدى إلى نشوء أسواق جديدة لتلبية حاجات سكانها من منتجات زراعية وصناعية وتجارية، ما جعلها مركزًا اقتصاديًا حيويًا.
كما ساعد موقع كربلاء على حدود البادية الغربية على استقرار القبائل العربية داخلها تدريجيًا، الأمر الذي أسهم في ازدهار الأسواق وتوسع النشاط التجاري، حتى برزت نواحٍ ومدن تابعة لها مثل عين التمر وواحة شثاثة، التي تحولت بدورها إلى مراكز مهمة.
الرحالة الذين زاروا كربلاء في القرون الأخيرة وثقوا هذا الازدهار. ففي عام 1803 وصفها الرحالة أبو طالب خان بأنها مدينة مقسمة إلى ثلاثة أطراف رئيسية، بينما أشار الرحالة الفرنسي فونتانييه عام 1824 إلى مرور نحو مئة ألف زائر أجنبي سنويًا من بغداد باتجاه العتبات المقدسة في النجف وكربلاء.
وازداد النشاط التجاري بربط كربلاء بسكك الحديد مع بغداد عام 1858 في عهد الوالي العثماني عمر باشا، ما عزز الحركة الاقتصادية والدينية. وقدّر الرحالة الألماني بيترمان عام 1864 عدد الزائرين بنحو ستين ألفًا، وهو ما انعكس مباشرة على توسع الأسواق وتأمين الطرق التجارية القديمة.
ومع مرور الزمن أصبحت كربلاء مدينة معروفة بتنوع أسواقها وصناعاتها الشعبية وحرفها التقليدية، التي لبّت احتياجات السكان والزائرين وأسهمت في انتعاش اقتصادها المحلي. وهكذا لم يكن اقتصاد المدينة قائمًا على السياحة الدينية وحدها، بل على الزراعة والصناعة والتجارة أيضًا، مما جعلها مركزًا اقتصاديًا ودينيًا بارزًا في تاريخ العراق.
_______________________________________________________
المصدر/ موسوعة كربلاء الحضارية، مركز كربلاء للدراسات والبحوث، الجزء الأول، ص 47،46،45،44 ، 2020،كربلاء.