في الحذر من ارتكاب الذنب ابتداء فهو خير من تحمّلتبعاته لاحقا، و مراقبة و محاسبة النفس يروى عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله «تَرْكُ الذَّنْبِ أَهْوَنُ مِنْ طَلَبِ التَّوْبَةِ»[1]،و ذُكر في نسخ «تَرْكُ الذَّنْبِ أَهْوَنُ مِنْطَلَبِ الْمَعُونَةِ»[2]،و التوبة بمقابلة الذنب أنسب، و لما روي عنه (ع) في قوله: «تَرْكُ الْخَطِيئَةِ أَيْسَرُ مِنْ طَلَبِ التَّوْبَةِ، وكَمْ مِنْ شَهْوَةِ سَاعَةٍ أَوْرَثَتْ حُزْناً طَوِيلاً»[3]،و للسياق كما في تمام نهج البلاغة ففيه «وَإِنْقَارَفْتَ سَيِّئَةً فَعَاجِلْ مَحْوَهَا بِالتَّوْبَةِ، [ وَ ] تَرْكُ الذَّنْبِأَهْوَنُ مِنْ طَلَبِ التَّوْبَةِ»[4]،و كذلك رواها الرضي في خصائص الأئمة (ع)[5].

هذا الكلام يجري مجرى المثل، و يضرب لمن بدأ في أمريخاطر أو يغامر فيه، و يرجو التخلص منه فيما بعد بطريقة ما.

و ترك الخطأ و عدم ارتكاب الذنب و المعصية و الإثمابتداء أهون و أيسر و أسهل على الإنسان من ارتكاب الذنب ثم طلب التوبة أو المعونةلاحقا، فالحكمة تحذير من الذنوب مطلقا صغائرها و كبائرها، و نهي عن ارتكابها ابتداء،و التوبة إن وقع الذنب و هي أصعب و أعسر من ترك الذنب.

و المعنى العام هو السعي لعدم ارتكاب الأخطاء مطلقابأنواعها، و معها فلابد من تصحيحها و الآثار التي خلّفتها و هو أمر أصعب منالأخطاء نفسها للجهود الإضافية و التبعات و الآثار و لكن لابد منه.

في طلب التوبة -«تَرْكُالذَّنْبِ أَهْوَنُ مِنْ طَلَبِ التَّوْبَةِ»-، سواء صدر الذنب في حق منحقوق الله أو حق من حقوق النّاس، فإنّ التائب يحتاج إلى جُهد إضافي للتوبة، و مشقةإضافية، فيحتاج إلى طلب العفو، و فيها ذُل للنفس في كثير من الحالات مع النّاس وخضوع، و قد يحصل له اختلال في الوضع النفسي فالنفس أو الحالة النفسية للإنسان قبلالذنب أكثر صفاء و نقاء منها بعد الذنب، و لأنّ الذنب الواحد قد يجر إلى ذنوبمتعددة و الشيطان يزّين للإنسان المعصية، و قد يعجز الإنسان عن التوبة لضعف أو مرضأو كبر، أو عجز بسبب تعلّق قلبه بالذنب، أو لقلة إرادته فالذنب قد يضعفها و يجعلهأسيرا لعادته إن اعتاد عليه، أو لكبرياء يمنعه منها أو أنفة، أو حياء و خجل، أو لغفلة،أو لعدم قدرة لاحقا أو لموت قبل التوبة، فالتوبة غير مقدورة و مضمونة دائما خاصةفي حقوق الآدميين، و ترك الذنب أهون من ذلك كله.

و التوبة قد لا تحصل و قد لا توجد، و إذا حصلت فلها شروطها التي قد لا تتحقق و منها الندم على الذنب، والعزم على عدم التكرار، و تأدية الحقوق إلى أصحابها، و تأدية الفرائض التي ضيّعها،و الحزن و محو آثار الذنب، و إذاقة الجسم حلاوة الإيمان، كما ذكر أمير المؤمنين(ع) في حكمة أخرى لقائل قال بحضرته أستغفر الله[6].

و يروى عن الإمام الصادق (ع) قصة ذَكَرَ فيها العابدمن بني اسرائيل و المرأة و فيها قالت المرأة: «يَاعَبْدَ اللَّه إِنَّ تَرْكَ الذَّنْبِ أَهْوَنُ مِنْ طَلَبِ التَّوْبَةِ، ولَيْسَكُلُّ مَنْ طَلَبَ التَّوْبَةَ وَجَدَهَا»[7]،فالتوبة مفتوحة لعباد الله و هي باب للنجاة من المهالك و لكن خير منها عدم الحاجةإليها و عدم الوقوع في مسبباتها. 

و في طلب المعونة -«تَرْكَالذَّنْبِ أَهْوَنُ مِنْ طَلَبِ الْمَعُونَةِ»-، المعونة و العون و المساعدةليست من صاحب الذنب، بل يطلبها صاحب الذنب من الآخرين لعلاج ذنبه و زلته، و فيهانوع من الإحراج و ثقل الاعتراف بالخطأ و المشقة و العناء، و قد يمنعه الكبر أوالخجل أو الضعف أو العجز، و يكون هذا أثقل و أصعب على النفس من الخطأ نفسه، والإنسان في غنى عن هذا كله بعدم ارتكاب الذنب، بينما ترك الذنب ابتداء من صاحبه وبيده و هو قادر على الترك ابتداء.

و كمثال من يقوم بجريمة فيدخل بسببها السجن، ثم يحاولجاهدا الاستعانة بالآخرين لإخراجه منه بجهود كبيرة و مشقات و أموال و احراجات هوفي غنى عنها بتجنب الوقوع في الجريمة ابتداء.

و قريب من هذه الحكمة المثل المشهور «الوقاية خير من العلاج» أي تجنب الأمراض خير منالإصابة بها و آثارها و المعاناة من أعراضها و علاجاتها لاحقا، فإنّ الجسم معالوقاية و دون المرض أفضل صحة و عافية و صفاء، و ليس ذلك بعد المرض ففيه آلام وأوجاع المرض، و آثاره و بقاياه، و تغير الوضع النفسي للمريض بعده لاحتمال أن يكونفي حالة مضطربة نفسيا و غير مستقرة، ثم أنّه يحتاج إلى علاج و بحث عن العلاجالمناسب، و مقدمات العلاج و تطبيب و طبيب و مستشقى أو مستشفيات، و تكلفة العلاج إنوجد، و أنّه قد لا يوفق للعلاج و يستمر معه المرض و قد يقضي عليه فـــ «الوقاية خير من العلاج»، و يقال أيضا «درهم وقاية خير من قنطار علاج».

و المعنى هو المعنى العام و هو منع الأخطاء و الذنوبو المشاكل من أمراض و غيرها قبل حدوثها أفضل و أسهل و أيسر من التعامل معها بعدوقوعها، و التطبيقات على هذه الحكم و الأمثال لا حصر لها، و كأمثلة:

فإنّ التلقيحات و التطعيمات الصحية هي أيسر و أفضل من الإصابة بالأمراض الخطيرةو المعدية.

و الحذر من السرعة في سياقة السيارات و تلافي الحوادثأهون و أيسر مما تخلّفه الحوادث من أضرار و تصليحات و تطبيبات و حالات وفاة.

و بناء السدود أيسر و أسهل من طغيان المياه علىالأحياء و خرابها و ما تخلفه من خسائر في الأرواح و تدمير في الممتلكات، و إتلاف فيالبنية التحتية، و انتشار للأمراض.

و عدم تدخين السكاير أيسر و أهون من الابتلاء بأمراضالرئة و السرطانات.

و الحذر من السقوط من الأماكن المرتفعة أو العالية منالجبال و المباني أيسر من تطبيب الجروح و الكسور و الإصابات.

فالحذر و الوقاية أيسر و أهون مما يسببه عدمها معتقليل الإصابات و المخاطر، و توفير الجهد و الوقت، و للراحة النفسية و الاطمئناندون الذنب و الخطأ و المرض.

و من روايات أهل البيت (ع) إنّ المسيح (ع) قالللحواريين: «إنَّ مَن ‌لَيس علَيه ‌ِدَيْنٌ مِن ‌النّاسِأروَحُ و أقَلُّ هَمّاً مِمَّن علَيهِ الدَّينُ و إنْ أحسَنَ القَضاءَ، و كذلكَمَن لَم يَعمَلِ الخَطيئةَ أرْوَحُ هَمّاً مِمَّن عَمِلَ الخَطيئَةَ و إنْ أخْلصَالتّوبَةَ وأنابَ»[8].


[1]- نهج البلاغة، حكمة 170، غرر الحكم ودرر الكلم، عبدالواحد الآمدى التميمي، ص ١٨٦ (أَفْضَلُ مِنْ طَلَبِ التَّوْبَةِ تَرْكُالذَّنْبِ).

[2]- نهج البلاغة، حكمة 170

[3]- الكافي، الشيخ الكليني، ج ٢، ص ٤٥١ (قَالَ أَبُو عَبْدِاللَّه (ع) قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (ع) تَرْكُ الْخَطِيئَةِ أَيْسَرُ مِنْطَلَبِ التَّوْبَةِ، وكَمْ مِنْ شَهْوَةِ سَاعَةٍ أَوْرَثَتْ حُزْناً طَوِيلاً،والْمَوْتُ فَضَحَ الدُّنْيَا فَلَمْ يَتْرُكْ لِذِي لُبٍّ فَرَحاً)

[4]- تمام نهج البلاغة، السيد صادق الموسوي، ص ٩٧٣

[5]- خصائص الأئمة، الشريف الرضي، ص ١١٠ (تَرْكُالذَّنْبِ أَهْوَنُ مِنْ طَلَبِ التَّوْبَةِ).

[6] - نهج البلاغة، حكمة 417 (وَ قَالَ (عليهالسلام): لِقَائِلٍ قَالَ بِحَضْرَتِهِ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ،أَ تَدْرِي مَا الِاسْتِغْفَارُ، الِاسْتِغْفَارُ دَرَجَةُ الْعِلِّيِّينَ، وَهُوَ اسْمٌ وَاقِعٌ عَلَى سِتَّةِ مَعَانٍ، أَوَّلُهَا النَّدَمُ عَلَى مَا مَضَى،وَ الثَّانِي الْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ الْعَوْدِ إِلَيْهِ أَبَداً، وَ الثَّالِثُأَنْ تُؤَدِّيَ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ حُقُوقَهُمْ حَتَّى تَلْقَى اللَّهَأَمْلَسَ لَيْسَ عَلَيْكَ تَبِعَةٌ، وَ الرَّابِعُ أَنْ تَعْمِدَ إِلَى كُلِّفَرِيضَةٍ عَلَيْكَ ضَيَّعْتَهَا فَتُؤَدِّيَ حَقَّهَا، وَ الْخَامِسُ أَنْتَعْمِدَ إِلَى اللَّحْمِ الَّذِي نَبَتَ عَلَى السُّحْتِ فَتُذِيبَهُبِالْأَحْزَانِ حَتَّى تُلْصِقَ الْجِلْدَ بِالْعَظْمِ وَ يَنْشَأَ بَيْنَهُمَالَحْمٌ جَدِيدٌ ، وَ السَّادِسُ أَنْ تُذِيقَ الْجِسْمَ أَلَمَ الطَّاعَةِ كَمَاأَذَقْتَهُ حَلَاوَةَ الْمَعْصِيَةِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَقُولُ أَسْتَغْفِرُاللَّهَ).

[7] - الكافي، الشيخ الكليني، ج8، ص385 (عَنْأَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ كَانَ عَابِدٌ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْيُقَارِفْ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا شَيْئاً، فَنَخَرَ إِبْلِيسُ نَخْرَةًفَاجْتَمَعَ إِلَيْه جُنُودُه فَقَالَ مَنْ لِي بِفُلَانٍ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْأَنَا لَه فَقَالَ مِنْ أَيْنَ تَأْتِيه؟ فَقَالَ مِنْ نَاحِيَةِ النِّسَاءِ قَالَلَسْتَ لَه لَمْ يُجَرِّبِ النِّسَاءَ، فَقَالَ لَه آخَرُ فَأَنَا لَه، فَقَالَلَه مِنْ أَيْنَ تَأْتِيه؟ قَالَ مِنْ نَاحِيَةِ الشَّرَابِ و اللَّذَّاتِ قَالَلَسْتَ لَه لَيْسَ هَذَا بِهَذَا، قَالَ آخَرُ فَأَنَا لَه، قَالَ مِنْ أَيْنَتَأْتِيه؟ قَالَ مِنْ نَاحِيَةِ الْبِرِّ، قَالَ انْطَلِقْ فَأَنْتَ صَاحِبُهفَانْطَلَقَ إِلَى مَوْضِعِ الرَّجُلِ فَأَقَامَ حِذَاه يُصَلِّي قَالَ و كَانَالرَّجُلُ يَنَامُ و الشَّيْطَانُ لَا يَنَامُ ويَسْتَرِيحُ و الشَّيْطَانُ لَايَسْتَرِيحُ فَتَحَوَّلَ إِلَيْه الرَّجُلُ وقَدْ تَقَاصَرَتْ إِلَيْه نَفْسُهواسْتَصْغَرَ عَمَلَه فَقَالَ يَا عَبْدَ اللَّه بِأَيِّ شَيْءٍ قَوِيتَ عَلَىهَذِه الصَّلَاةِ فَلَمْ يُجِبْه، ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْه فَلَمْ يُجِبْه، ثُمَّأَعَادَ عَلَيْه، فَقَالَ يَا عَبْدَ اللَّه إِنِّي أَذْنَبْتُ ذَنْباً و أَنَاتَائِبٌ مِنْه فَإِذَا ذَكَرْتُ الذَّنْبَ قَوِيتُ عَلَى الصَّلَاةِ، قَالَفَأَخْبِرْنِي بِذَنْبِكَ حَتَّى أَعْمَلَه و أَتُوبَ فَإِذَا فَعَلْتُه قَوِيتُعَلَى الصَّلَاةِ، قَالَ ادْخُلِ الْمَدِينَةَ فَسَلْ عَنْ فُلَانَةَ الْبَغِيَّةِفَأَعْطِهَا دِرْهَمَيْنِ و نَلْ مِنْهَا، قَالَ ومِنْ أَيْنَ لِي دِرْهَمَيْنِمَا أَدْرِي مَا الدِّرْهَمَيْنِ فَتَنَاوَلَ الشَّيْطَانُ مِنْ تَحْتِ قَدَمِهدِرْهَمَيْنِ فَنَاوَلَه إِيَّاهُمَا فَقَامَ فَدَخَلَ الْمَدِينَةَ بِجَلَابِيبِهيَسْأَلُ عَنْ مَنْزِلِ فُلَانَةَ الْبَغِيَّةِ فَأَرْشَدَه النَّاسُ وظَنُّواأَنَّه جَاءَ يَعِظُهَا فَأَرْشَدُوه فَجَاءَ إِلَيْهَا فَرَمَى إِلَيْهَابِالدِّرْهَمَيْنِ و قَالَ قُومِي فَقَامَتْ فَدَخَلَتْ مَنْزِلَهَا و قَالَتِادْخُلْ، و قَالَتْ إِنَّكَ جِئْتَنِي فِي هَيْئَةٍ لَيْسَ يُؤْتَى مِثْلِي فِيمِثْلِهَا فَأَخْبِرْنِي بِخَبَرِكَ فَأَخْبَرَهَا، فَقَالَتْ لَه: يَا عَبْدَاللَّه إِنَّ تَرْكَ الذَّنْبِ أَهْوَنُ مِنْ طَلَبِ التَّوْبَةِ ولَيْسَ كُلُّمَنْ طَلَبَ التَّوْبَةَ وَجَدَهَا، وإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَاشَيْطَاناً مُثِّلَ لَكَ فَانْصَرِفْ فَإِنَّكَ لَا تَرَى شَيْئاً فَانْصَرَفَومَاتَتْ مِنْ لَيْلَتِهَا، فَأَصْبَحَتْ فَإِذَا عَلَى بَابِهَا مَكْتُوبٌاحْضُرُوا فُلَانَةَ فَإِنَّهَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَارْتَابَ النَّاسُفَمَكَثُوا ثَلَاثاً لَمْ يَدْفِنُوهَا ارْتِيَاباً فِي أَمْرِهَا فَأَوْحَىاللَّه عَزَّ وجَلَّ إِلَى نَبِيٍّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ لَا أَعْلَمُه إِلَّامُوسَى بْنَ عِمْرَانَ (ع) أَنِ ائْتِ فُلَانَةَ فَصَلِّ عَلَيْهَا و مُرِالنَّاسَ أَنْ يُصَلُّوا عَلَيْهَا فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهَا  وأَوْجَبْتُ لَهَا الْجَنَّةَ بِتَثْبِيطِهَاعَبْدِي فُلَاناً عَنْ مَعْصِيَتِي.

[8]- تحف العقول عن آل الرسول ( ص )، ابن شعبة الحراني، ص٣٩٢، بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج1 ص ١٤٥، ج75 ص307