لم يكن طريق التعليم في كربلاء خلال العهد العثماني معبداً بالإصلاح أو التحديث، بل ظلّ حبيس الأساليب التقليدية والكتاتيب الشعبية حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حين بدأت ملامح التغيير تظهر بخطى بطيئة على يد الوالي العثماني مدحت باشا (1869 – 1872م)، الذي حاول إدخال روح التحديث في بعض مؤسسات الدولة، ومنها قطاع التعليم.
وبحسب ما ورد في موسوعة كربلاء الحضارية الصادرة عن مركز كربلاء للدراسات والبحوث، فإن مدحت باشا يُعد أول والٍ عثمانيٍّ سعى إلى تنظيم التعليم في العراق، فأسس عدداً من المدارس الرسمية في بغداد وبعض المدن الكبرى، في إطار حركة الإصلاحات العثمانية التي انطلقت منذ منتصف القرن التاسع عشر.
لكن هذه الإصلاحات لم تترك أثراً حقيقياً في كربلاء المقدسة، إذ لم تتجاوز مظاهرها الإدارية وظلت كربلاء خارج نطاق الاهتمام الرسمي.
حتى منتصف القرن التاسع عشر، لم يعرف العراق من المدارس الحديثة سوى بضع مدارس ابتدائية محدودة، أغلبها تابعة للإرساليات التبشيرية أو مخصصة للطوائف المسيحية في الموصل وبغداد، حيث تشير إحدى المصادر إلى أن أول مدرسة ابتدائية نظامية افتُتحت في ولاية الموصل سنة 1278هـ / 1861م، بينما بقيت كربلاء تعتمد على التعليم الأهلي التقليدي.
ويؤكد الباحثون أن السياسة العثمانية تجاه المدن الشيعية، وعلى رأسها كربلاء ، كانت قائمة على الإقصاء والتهميش المتعمد، حيث مُنع أبناء تلك المدينة من الالتحاق بالمدارس الحكومية أو تقلّد الوظائف العسكرية والمدنية، ويذكر السياسي العراقي "كامل الجادرجي" في مذكراته أن الدولة العثمانية "كانت تنظر إلى الشيعة بعين العداء، فلم تفتح أمامهم مجالات التعليم أو الخدمة في مؤسساتها الرسمية، إلا نادراً وفي حالات الضرورة".
أمام هذا الإهمال، لجأ المجتمع الكربلائي إلى تعويض غياب التعليم الرسمي بتطوير التعليم الأهلي المتمثل في الكتاتيب والمدارس الدينية، فقد انتشرت الكتاتيب في الأحياء القديمة لتعليم الأطفال القراءة والكتابة والقرآن الكريم، فيما واصلت المدارس العلمية الدينية (الحوزات) أداء دورها التاريخي في نشر العلوم الإسلامية والعربية، رغم ما واجهته من تضييق وإهمال.
شكّل هذا النوع من التعليم، الركيزة الأساسية للحياة الثقافية في كربلاء خلال العهد العثماني، وأسهم في حفظ الهوية العلمية والدينية للمدينة في وقت كانت فيه سياسات الدولة تُكرّس التجهيل والتفرقة المذهبية. وهكذا، بينما فشل التعليم الرسمي في أداء رسالته، نجحت كربلاء من خلال مبادرات أهلها وعلمائها في الحفاظ على رسالتها العلمية ومكانتها الفكرية حتى نهاية الحكم العثماني.
المصدر: مركز كربلاء للدراسات والبحوث، موسوعة كربلاء الحضارية الشَامِلَةُ، المحور التاريخي، قسم التاريخ الحديث والمعاصر، 2020، ج2، ص11-13.