لم يعد زوار الأربعين مجرد عدد، فقد تخطت الزيارة لهذا العام حاجز الـ (21) مليون زائر، لتؤكد مرة أخرى أنها ليست حدثاً دينياً محضاً، بل ظاهرة إنسانية وثقافية واجتماعية تتجاوز حدود المكان والزمان، وجمعت ملايين القلوب من (140) دولة في كربلاء، لتصنع لوحة إنسانية نادرة في التعايش، والتعاون، والتكافل.
إن (21) مليون زائر تعني أنّ كربلاء استقبلت في أقل من ثلاثة أسابيع عدداً من البشر يفوق سكان دول بأكملها، كما تعني أيضاً أنّ طرق العراق تحولت إلى جسور بشرية متصلة لا تنقطع، فيما وفّر أكثر من (15) ألف موكب خدمي وجبات الطعام، والماء، والمبيت للزائرين على امتداد آلاف الكيلومترات، بينما شاركت آلاف الكوادر الطبية والأمنية لتأمين هذه المسيرة الاستثنائية.
لكن الأرقام لا تقف عند أعداد الزائرين فقط، بل تمتد إلى ما أنتجته هذه المسيرة من أعمال خيرية، كملايين الوجبات اليومية، وآلاف المبادرات الإنسانية، وأطنان من المواد الغذائية واللوجستية التي قدمت مجاناً من الأهالي والهيئات الدينية والشعبية.
وما وراء الأرقام هو الأهم، فقد تحولت زيارة الأربعين إلى أكبر جامعة مفتوحة للتعايش الإنساني، حيث يلتقي العربي مع المسلم ومع المسيحي والأيزيدي والصابئي، على إختلاف طبقاتهم الاجتماعية ومذاهبهم الدينية، في أجواء قوامها المحبة والتكافل.
هذا التنوع الهائل يبرهن أن كربلاء لم تعد فقط قبلة للمؤمنين بالقضية الحسينية، بل فضاءً عالمياً يعيد تعريف التضامن الإنساني، كما أنّ مشاركة الملايين تعكس قوة "الذاكرة الجمعية" التي لا تسمح لفاجعة كربلاء أن تبقى حدثاً تاريخياً منسياً، بل تجددها كل عام لتبقى حية في الضمير الإنساني، لتتحول بذلك الذكرى إلى طاقة ثقافية تشكل وجدان الأجيال وتؤكد القيم التي خرج من أجلها الإمام الحسين (عليه السلام).
وحين يتحدث العالم عن أكبر التجمعات البشرية، فغالباً ما يُذكر الحج أو بعض المناسبات في  العواصم العالمية، إلا أن الأرقام تؤكد وبما لا يدع مجالاً للشك، إنّ زيارة الأربعين هي الحدث البشري الأكبر والأكثر انتظاماً وتكافلاً على وجه الأرض.
وهذا الحضور الكثيف ليس استذكاراً لتضحية سيد الشهداء (عليه السلام) فحسب، بل هو أيضاً رسالة عالمية من قلب العراق إلى العالم، مفادها أن الشعوب قادرة على صناعة السلام والتعايش حين تجتمع على القيم الإنسانية، لا على المصالح الدنيوية.