في زمنٍ تندفع فيه الحداثة بقوة التقنية، وتغمر الصناعات الرقمية كل زاوية في الحياة، تقف كربلاء شامخةً على جسر الذاكرة، مستندة إلى فولكلورٍ عريق، يحفظ لها هويتها، ويعكس نبض أبنائها المتجذر في التاريخ.
فمن الأزقة القديمة إلى الورش الصغيرة، ومن المناسبات الدينية إلى العادات اليومية، ما تزال المدينة تعجّ بحياةٍ ثقافية ثرية، يظهر فيها التراث الشعبي بأبهى صوره، حيث تُروى الحكاية بالخشب والنحاس والخيط والجلد، وتُحفر على جبين المدينة ملامح الأصالة المتوارثة.
هذا ولم تكن الحِرفة في كربلاء مجرّد وسيلة كسب، بل طقس من الانتماء، ومدرسة في الإتقان، وشهادة على عشقٍ صامتٍ للتراب والهوية، فقد احترف الكربلائيون منذ القدم صناعاتٍ يدوية عديدة، تميزت بالجودة العالية والدقة، وجسدت روح العمل الجماعي والتفاني.
ورغم اجتياح التكنولوجيا الحديثة، بقيت العديد من هذه الحِرف صامدة. لم تغرها الآلة، ولم تهزمها المعالجات الرقمية، بل حافظت على وجودها كرمزٍ حيّ، ودليلٍ على أن الإنسان بما يملك من ذاكرة ومهارة، أقوى من أي موجة طارئة.
يذكر أن الكثير من الدول المتقدمة تنبّهت إلى خطورة اندثار التراث الشعبي، باعتباره مرآة للوجدان الجمعي، ومصدر فخرٍ وطني لا يُعوّض، ولأجل هذا، أدرجت منظمة اليونسكو الكثير من الإشارات المهمة التي تؤكد على ضرورة حماية الحِرف التقليدية وصونها.
وفي هذا السياق، انبرى مركز كربلاء للدراسات والبحوث، بالتعاون مع الباحث الأستاذ "علي حسين الخفاف الغفاري"، لتوثيق التراث الحِرفي في محافظة كربلاء، عبر دراسة ميدانية رصينة، تمخّضت عن إصدار كتاب مهم في عام 2020م.
الكتاب، الذي يُعد مرجعاً في مجاله، سلط الضوء على أبرز المهن التقليدية التي ما زالت تمارس حتى اليوم، على الرغم من التغيرات المتسارعة، مركّزاً على محافظة كربلاء لفرادتها الثقافية، وحرص أبنائها على حماية هذه الكنوز من الاندثار.
هذا المشروع ليس مجرد توثيقٍ لذكريات، بل تأريخٌ للروح الكربلائية، وتأكيدٌ على أن الهوية لا تُصنع في المؤتمرات، بل تُصاغ في الأيدي التي تعمل، وفي القلوب التي تحب.
المصدر: مركز كربلاء للدراسات والبحوث، موسوعة كربلاء الحضارية، المحور الاجتماعي، ج1، 2020، ص23-25.