يُعدّ عبد المهدي الحافظ الخفاجي من أعلام كربلاء البارزين في مطلع القرن العشرين، فقد جمع بين عبقرية الشاعرية وروح القيادة السياسية في وقت كان فيه الأدب والثقافة ركيزتين أساسيتين للحراك الاجتماعي والفكري في المدينة المقدسة، وُلِد عبد المهدي بن صالح بن حبيب الحافظ في كربلاء في منطقة بركة الحافظ بمحلة باب بغداد، حيث نشأ وترعرع وسط بيئة أدبية وعلمية نشطة، وتلقى تعليمه في مدارس المدينة العريقة، فقد تعلّم الفنون اللغوية والعروض على يد الشيخ كاظم الهر الخفاجي، مما أتاح له إتقاناً فذاً للغة العربية وأسساً متينة في علم النحو والبلاغة، ولم يقتصر تألقه على البيئة التعليمية فحسب، بل تعدى ذلك إلى ساحة السياسة والإدارة، إذ اختير عضواً في مجلس (المبعوثان) في إسطنبول وتقلّد رئاسة بلدية كربلاء، مما أكسبه مكانة مرموقة بين أعيان تجار المدينة وملاكها، وكان لذلك أثر بالغ في تعزيز دور كربلاء على الصعيدين الثقافي والسياسي.
تجلّت قدرات الحافظ الخفاجي في إتقانه لعدة لغات منها الإنجليزية والفرنسية والتركية والفارسية والكردية، وهو ما انعكس جلياً على أعماله الأدبية التي كانت تتسم برقة اللفظ وسلاسة السبك وعمق المعاني، فقد كتب العديد من الدواوين الشعرية والمؤلفات في قواعد اللغة العربية والفقه وأصوله، وبرز في حلقات النقاش الثقافي والأدبي في كربلاء مجلسه الأدبي الذي كان يطل على الروضة الحسينية، حيث كان يجتمع كبار المفكرين ورجال السياسة لتبادل الآراء حول قضايا الوطن والتراث الديني .
ومن أشهر ما يُنسب إليه (القصيدة الدالية) التي ضمت ما يقارب 41 بيتاً في مدح الإمام الحسين (عليه السلام)؛ فقد عبّر فيها عن مشاعر الفخر والارتباط العميق بمقام الشهيد، ومن بين أبياتها التي ظلت محفورة في ذاكرة الشعر العربي ما يلي:
فاعدلْ بنا نحوَ الـغري وعُد بنا فالعودُ أحمد
وامدح بهِ سرَّ الإله وبابه والعينَ واليد
من مهّدَ الإيمانَ صا رمُهُ وللإسلامِ شيَّدْ
لولا صليلُ حسامهِ لرأيتَ لاتَ القومِ يُعبدْ
من خاضَ غمرتَها غداةَ حنينِ والهاماتُ تحصدْ
إلا أبو حسنٍ أميرُ النحلِ والتنزيلُ يشهدْ
أم من تصدّى لابنِ ودٍّ ومن لشملِ القومِ بدَّدْ
إلاهُ فابرقْ يا هزيمُ وبعدها ما شئتَ فارعدْ
وأهتفْ بخيرِ الخلقِ بعدَ المصطفى المولى المؤيّدْ
وأطلقْ له العتبَ الممضَّ وقُلْ له أعلمتَ ما قدْ
فعلتْ بنو الطلقاءِ في أبناءِ فاطمةٍ وأحمدْ.
كان للحافظ الخفاجي بصمة عميقة في الحياة السياسية والاجتماعية لكربلاء؛ فقد شارك بفاعلية في النقاشات والندوات التي كان فيها العلماء ورجال الإدارة يتداولون قضايا الوطن والمشكلات المعاصرة،ورغم التحديات التي واجهت المدينة في ظل الظروف الاستعمارية والتحولات السياسية التي عرفها العالم الإسلامي، ظل عبد المهدي الخفاجي منارة للإبداع والجدية، حيث كان يحرص على نقل معاني الوفاء والكرامة عبر كلماته وأبياته الشعرية، مؤمنًا بأن سعة الصدر وحسن الخلق هما مفتاح النبل الإنساني.
ومن خلال مؤلفاته الأدبية وخطبه ومراسلاته مع كبار الأدباء مثل الشيخ محمد جواد الشبيبي والحاج محمد حسن أبو المحاسن، أسهم في تعزيز الروح الثقافية في كربلاء، وبنى جسوراً من المعرفة تربط بين الحوزة العلمية والدوائر الإدارية والفكرية في المدينة، كما شارك في إعداد المؤلفات التي تناولت تاريخ وتراث كربلاء، مما جعله أحد رموز النهضة الثقافية في المدينة التي لم تكتفِ بالحفاظ على التراث الديني فحسب، بل عملت على تحديثه ونشره بين الأجيال
لقد استطاع الحافظ الخفاجي أن يخلق بيئة ثقافية راقية تلتقي فيها الكلمة والروح، حيث كانت جلساته الأدبية بمثابة ملتقى للفكر والإبداع، تجمع بين الشعراء والمثقفين ورجال السياسة، وتُعدُّ تلك اللقاءات مرجعية أثرت في الحياة الثقافية لكربلاء وأسهمت في بناء هوية أدبية حية تتوارثها الأجيال، ورغم وفاته عام 1332 هـ (1914 م)، لا يزال إرثه الأدبي والسياسي يُذكر ويُحتفى به في كل زاوية من زوايا كربلاء، وتظل قصائده تُقرأ في الروضة الحسينية كرمزٍ للفخر والوفاء والارتباط بالتراث الديني.
راجع
موسى إبراهيم الكرباسي،البيوتات الأدبية في كربلاء،من إصدارات مركز كربلاء للدراسات والبحوث،2015،ط1،ص191