في موقف ناصع يعكس الشجاعة المعهودة لمراجع الدين العظام في التصدي لشؤون الأمة ورفض الظلم والعدوان، أرسل المرجع الأعلى في عصره آية الله العظمى الشيخ محمد تقي الشيرازي (قدس سره)، في 27 ذي القعدة 1338هـ الموافق 11 آب 1920، كتاباً إلى عصبة الأمم بعد أيام من اندلاع ثورة العشرين في العراق، مطالباً فيها بمساعدة العراقيين على مواجهة الاحتلال الإنكليزي وإنهاء المجازر البشعة التي ارتكبت بحق المواطنين، واستعادة حقوقهم المسلوبة.
وبحسب ما جاء في كتاب (كربلاء المقدسة في وثائق الثورة العراقية 1920) الصادر عن مركز كربلاء للدراسات والبحوث في العتبة الحسينية المقدسة، فقد أرسلت هذه الرسالة إلى مقر الأمانة العامة للعصبة في مدينة جنيف عن طريق الحكومة الإيرانية.
وفيما يلي النص الكامل للكتاب:
"إنني لما قلدتني الأمة الإسلامية في المرجعية الروحانية أبث عنها صريح الشكوى إلى سامي مقام جمعية الأمم؛ بسبب ما تبديه الحكومة الاحتلالية البريطانية في العراق من ضروب القسوة وسفك الدماء البريئة، في حين أن العراقيين قاموا أكثر من المطلوب من الطاعة والرضوخ للضرائب، بل لكل جزاء وسيطرة شاءها الإنكليز وشاءها الهوى لهم، بيد أن العراقيين طلبوا إنجاز مواعيد الدولتين المعظمتين البريطانية والفرنسوية بمنح الشعب العراقي الكريم استقلاله في إدارة شؤونه وتدبير مصالحه العامة، وتأييد الدولتين لهذا الشعب الحر في إظهار رغائبه وحكمه الذاتي بتمام حريته، وعندما فاهت الأمة العراقية بطلب إنجاز هذه الوعود المقطوعة من الدولتين المذكورتين، ثار ثائر الحكومة الإنكليزية، فقامت معتمدة على قوتها دون الحق، ففتكت بالعراقيين فتكاً ذريعاً، وأخذت تهاجم بطياريها ومدافعها حتى عدمت من أعدمته، ونفت وسجنت من أرادته وأحرقت دوراً وهدمتها، ونهبت أموالاً وصادرتها، وعملت أعمالاً لا تأتلف وروح المدنية المزعومة فيها، بل أن الأعمال التي جاءت بها يأباها كل إنسان. عند ذلك قام العراقيون مدافعين عن أنفسهم وشرفهم بعد أن يأسوا من إصغاء حكومة بريطانيا لهم حتى للتفاهم معهم بصورة سلمية، وبصفتكم ناصري الضعيف جئنا بهذه النبذة اليسيرة، نعلمكم موقف حكومة بريطانيا بالعراق فنستجير بمن يمثل العدل، فانقذوا أمة تأبى أن تعيش دون أن تأخذ حقها الصريح المعترف به. ودمتم باحترام".
عند تحليل مضامين هذه الوثيقة التاريخية، نرى بوضوح صلابة المرجعية أمام بطش الحكومة البريطانية في العراق آنذاك، والشعور العالي بمسؤولية المرجعية كقيادة روحية وعقائدية للملايين من المقلدين والأتباع، وعدم الرضوخ لجميع الضغوطات ومحاولات الاستمالة التي عمل عليها الإنكليز لتحييد المرجعية عن التصدي لهذا الأمر، ولكن قد خفي عنهم أن مقام المرجعية والسر الإلهي في استمرار دورها الديني والروحي يكمن في تصديها لمثل هذه الأحداث، فحفظ الدين والمقدسات وحقن دماء المسلمين مرهون بمواقفها الرسالية الخالدة.
كما أن لغة الخطاب في هذه الرسالة قد تميزت بالدبلوماسية العالية الممزوجة بقوة الموقف والثبات عليه، وهذا يأتي من الحكمة والحنكة التي امتازت بها شخصية المرجع الشيرازي المعظم (قدس سره)، ففي الوقت الذي نقل فيه معاناة شعب مستضعف فتكت به قوى الاستكبار والظلم، والأمل في الخلاص على أيدي عصبة الأمم كحاضنة رسمية للسلام العالمي، لكنه نقل بشكل صريح أن هذا الشعب يأبى السكوت عن سلب حقوقه وتقييد حرياته، وأنه لم يلجأ إلى المواجهة الثورية المباشرة إلا بعد أن عجز عن الحلول السلمية التي لم تجد لها آذان صاغية من قبل حكومة الاحتلال.
إن هذه المواقف التاريخية للمرجعية، قد أرست دعائم قوتها وفرض هيبتها واحترامها من قبل جميع القوى والمنظمات العالمية، وعادة ما ترضخ لها كل الضغوطات والإرادات الخارجية في العديد من المحطات التي حفظت فيها الأرض والمبادئ والدماء.
تعليق: أسعد كمال الشبلي
مصدر الرسالة: كامل سلمان الجبوري، كربلاء المقدسة في وثائق الثورة العراقية 1920، إصدارات مركز كربلاء للدراسات والبحوث، ص 205.