ثانياً: المخيّم الحسيني الحالي فـي مدونات الرحالة:
حكى الخليلي في ذكر المخيم: إنّ كارستن نيبور الذي زار كربلاء سنة (1179هـ/ 1765م)، وزار المخيّم الحسيني، أشار إلى وجود مزار خاص خارج البلدة في أول الطريق المؤدية إلى النجف، وقال: إنّه شيّد في الموضع الذي سقط فيه جواد الحسين براكبه الشهيد، ويضيف إلى ذلك ذكره لموقع المخيّم (الخيمكاه) الذي يطنب في وصف ما شاهده فيه فيقول: إنّ هذا الموقع قد أصبح حديقة غناء واسعة الأرجاء، تقع في نهاية البلدة، وتشاهد فيه بركة كبيرة من الماء، وموقع هذه البركة هو نفس الموقع الذي كان الإمام العباس قد حفر فيه لإيجاد الماء فلم يعثر على شيء منه. ويروي نيبور بالمناسبة: أنّ الناس هناك كانوا يعتقدون أن ظهور الماء في البركة بعد ذلك يعتبر من المعجزات. وقد أشار إلى وجود هذه البركة الكبيرة في الموقع نفسه الرحالة البرتغالي بيدرو تكسيرا (Pedro Teixeira) ت 1051هـ / 1641م الذي زار كربلاء في ١٦٠٤م، أي قبل مجيء نيبور إليها بمئة وستين عام، كما ذكر قبل هذا.
وبركة الماء التي تحدث عنها (تكسيرا ونيبور) هي في حقيقتها بئر ماء نعتقد أنّها من الآبار التي كان يستخدمها الساكنون للاستسقاء في الموضع، أو لسقي مزروعاتهم، وعندما أنشىءُ المخيّم في هذا المكان؛ ظنّ الكثيرون أنّ هذه البئر هي من ضمن آبارٍ عديدة حفرها الإمام الحسين عليه السلام عند نزوله كربلاء لغرض السقاية بعد أن منع عليه الماء جيش الطغمة الأموية الفاسدة. وذكرتها مصادر تاريخية عديدة كما سنبين، وهذا البئر كان موجوداً حتى عام 2002 للميلاد وقد طمر بعد هدم أبنية المخيّم الحسيني بسبب التقادم الزمني وإعادة بنائه مجدداً، إذ إنّ عين الماء التي حفرها الإمام الحسين عليه السلام للاستسقاء، ذكرها ابن أعثم قائلاً: ثمّ إنّ ابن زياد كتب إلى عمر بن سعد: أما بعد، فقد بلغني أن الحسين يشرب الماء هو وأولاده، وقد حفروا الآبار، ونصبوا الأعلام، فانظر إذا ورد عليك كتابي هذا فامنعهم من حفر الآبار ما استطعت، وضيّق عليهم، ولا تدعهم يشربوا من ماء الفرات قطرة واحدة، وافعل بهم كما فعلوا بالتقي النقي عثمان بن عفان.
في حين أن الخوارزمي قال: ورجعت خيل ابن سعد حتى نزلوا على شاطئ الفرات، فحالوا بين الحسين وأصحابه وبين الماء، وأضر العطش بالحسين وأصحابه، فأخذ الحسين عليه السلام فأساً وجاء إلى وراء خيمة النساء فخطا في الأرض تسع عشرة خطوة نحو القبلة، ثمّ احتفر هنالك، فنبعت له عين من الماء العذب، فشرب الحسين عليه السلام ، وشرب الناس بأجمعهم، وملأوا أسقيتهم، ثمّ غارت العين، فلم ير لها أثر، وبلغ ذلك ابن زياد فأرسل إلى عمر بن سعد: بلغني أنّ الحسين يحفر الآبار، ويصيب الماء، فيشرب هو وأصحابه، فانظر إذا ورد عليك كتابي فامنعهم من حفر الآبار ما استطعت وضيّق عليهم، ولا تدعهم يذوقوا الماء، وافعل بهم كما فعلوا بالزكي عثمان، فعندها ضيق عمر بن سعد عليهم غاية التضييق. ومثله الكركي.
أما ابن شهر اشوب فقال: ولما منع الماء من الحسين عليه السلام أخذ سهماً وعد فوق خيام النساء تسع خطوات، فحفر الموضع فنبع ماء طيب فشربوا وملؤوا قربهم.
ومن الملاحظ أن هناك تفاوتاً في المسافة الفاصلة بين خيام النساء ومكان حفر البئر عند كل من الخوارزمي وابن شهر اشوب، وقد يعود ذلك إلى وجود سقط أو سهو في النسخ بين عددي تسع وتسع عشرة خطوة في المسافة في أصل إحدى المخطوطتين، فسقطت كلمة (عشرة) غير أنّ هذا لا يهمنا بقدر اتفاق الاثنين على حفر البئر خلف خيام النساء.
وقفة:
المعلوم أنّ عثمان بن عفان حوصر في المدينة من قبل الغاضبين عليه، والمعارضين لسياسته، فمنع الماء، فلما بلغ ذلك الإمام علي بعث له الماء. قال أرباب التاريخ: فبلغ علياً طلبه للماء - عثمان بن عفان- فبعث إليه بثلاث قِرَب ماء، فما وصل إليه ذلك حتى خرج جماعة من موالي بني هاشم وبني أمية. غير أنّ بني أمية اتخذوها ذريعة؛ فأظهروا للناس أنّ عثمان قتل عطشاناً، وينبغي الانتقام له، وصوروا للناس أنّ الثورة على عثمان كانت في نظر أمير المؤمنين عليه السلام عملاً صائبا، ومن هذا الباب تسلّل أهل الفتنة والبغي والنواصب فدبروا المجازر للمسلمين حتى كانت واقعة كربلاء؛ فكان أول قرار اتخذه ابن زياد هو منعه عترة النبي عليه السلام من الماء، وما أن اتخذ هذا القرار حتى سارع عمر بن سعد إلى وضعه موضع التنفيذ، فأوصى أصحابه وعساكره أن لا يسمحوا لأصحاب الإمام الحسين عليه السلام بحمل الماء من الفرات، ومع أنّ الفرات كان طويلاً عريضاً غير أنّ أصحاب الحسين عليه السلام كانوا محاصرين ممنوعين منه، وقد أكّد ابن زياد تكراراً وجوب منع الماء، فبعث عمر بن سعد عمرو بن الحجاج الزبيدي على خمسمائة فارس وأمره بالنزول على الشريعة، ومنع أصحاب الإمام الحسين عليه السلام من ورودها.
الشيخ مصطفى الصديقي الخلوتي الدمشقي زار كربلاء سنة 1139هـ-1726م ودون رحلته تحت عنوان الرحلة العراقية، وبعد أن قام بزيارة المشهد الحسيني والتكية البكتاشية فيه وزيارة مرقد العباس عليه السلام ومرقد الحر زار المخيم الحسيني وقال: وصلنا الى الحمى خيمكه.. ثم إنا ترددنا على تلك البقعة المباركة، لما رأينا له بركة.
وعلى الطريق المؤدي الى خارج البلدة من جهة الغرب يقع موقع المخيم الذي نصب فيه الحسين مخيمه الأصلي، أي (الخيمكاه) وتتخذ البناية المشادة فيه شكل خيمة من الخيم، وعلى جهتي المدخل منها صورتان حجريتان لسروج الإبل .
وذكر في الموسوعة الإسلامية الصادرة بالفرنسية ما نصه: وعلى الطريق المؤدي إلى المدينة يوجد موقع المخيمات أو الخيم.
أما الرحالة أبي طالب خان الهندي المتوفى 1221هـ- 1806م، الذي زار كربلاء سنة 1218هـ -1803م، فقد زار المخيّم الحسيني وذكره بالقول: رأيت الموضع الذي نصب فيه الإمام زين العابدين عليه السلام خيمته يوم الوقيعة - العاشر من المحرم - وقد بنته الأميرة زوج النواب الأخير للكناو آصف الدولة مقاماً رائع البنيان. وقد ذكر السيد سلمان طعمة نقلاً عن (أبي طالب خان) أنّ المسافة بين المخيّم الحسيني والعتبة الحسينية هي ربع ميل. ولما كان الميل يساوي (1.6093) كيلو متر عندها يبعد المخيّم من العتبة حوالي (400) متر. والنسخة التي بين أيدينا لم أجد فيها ما يشير إلى ذكر المسافة بين حرم الإمام الحسين عليه السلام وموضع المخيّم الحسيني.
واعتقد أنّ هذه المسافة، على فرض صحة ذكرها، جاءت من باب الحدس والتخمين، والصحيح أن المسافة بين الموقعين هي (274) متراً كما بينا سلفاً.
بيان:
الظاهر من أقوال أبي طالب خان الهندي: لم يكن هناك مسمى جامع بعنوان مقام المخيم الحسيني بل هناك مقام لخيمة الإمام زين العابدين عليه السلام وآخر لخيمة القاسم عليه السلام وهذه المقامات كانت ظاهرة، وبينهما مسافة قصيرة، وحسب اعتقادنا لأنّه رآه مهوى صلاة الزائرين فضلاً عن وجود خدم خاصين بكل موقع من هذه المواقع، وهذا ما سنبينه عند تطرقنا إلى موضوع السدانة لاحقاً.