إضاءة:
الملاحظ أن هناك أكثر من قول بوجود قبر للقاسم بن الحسن عليه السلام في موضع المخيم الحسيني، وخاصة عند المستشرقين، كما سنبين في محله، وهذا الأمر لا أساس له من الصحة البتة، إذ إن شهداء الطف بأجمعهم الهاشمين والأصحاب دفنوا في الحائر الحسيني عند سيد الشهداء؛ استناداً لقول المفيد: ولما رحل ابن سعد خرج قوم من بني أسد كانوا نزولاً بالغاضرية إلى الحسين وأصحابه رحمة الله عليهم، فصلوا عليهم ودفنوا الحسين عليه السلام حيث قبره الآن، ودفنوا ابنه علي بن الحسين الأصغر عند رجليه، وحفروا للشهداء من أهل بيته وأصحابه الذين صرعوا حوله مما يلي رجلي الحسين عليه السلام وجمعوهم فدفنوهم جميعاً معاً، ودفنوا العباس بن علي عليه السلام في موضعه الذي قتل فيه على طريق الغاضرية حيث قبره الآن.
حكى الصالحي: أن المختار الثقفي هو أول من بنى رمزاً تذكارياً للمخيم الحسيني الحالي وذلك سنة 66هـ، وهذا البناء جدد على يد الداعي الصغير العلوي
أمير طبرستان سنة 280 هـ، وقام عضد الدولة البويهي هو الآخر ببناء عمارة المخيم سنة 367هـ، ومن بعده الشاه إسماعيل الصفوي عندما زار كربلاء سنة 914هـ، إذ إنه أمر بتوسيع بناء المخيم، وفرشه بالسجاد الفاخر، وعين له خدماً، وجلب له الماء، وأمر بزراعة الأراضي المحيطة به، وذكر الأستاذ عبد الحسين الصالحي أنه قرأ ذلك في وقفية بستان مؤرخة سنة 930هـ لإنارة (خيمكاه).
أقول: أرى أن ما ورد عن الأستاذ الصالحي، محل نظر وتأمل إذ لم أجد في أي من المصادر التاريخية المعتبرة التي دوّنت أخبار النهضة الحسينية المباركة كالبلاذري، والدينوري، والطبري، والمفيد، ولا في غيرها ذكراً لما جاء في الأقوال المارة الذكر من أن أول من وضع أساس المخيم الحسيني هو المختار الثقفي، ومن جاء بعده من السلاطين والأمراء.
والمستغرب في الأمر أنه لم يذكر مستنده في ذلك، مما يجعل أقواله هذه، من الصعب الأخذ بها.
توطئة:
أولاً: لم يكن التاريخ عند العرب قبل الاِسلام أكثر من أخبار الاَحداث المهمّة، تنقل شفاهاً، فقد كان العرب بطبيعتهم أثبت الناس حفظاً، وأتمّهم حافظة؛ لذا كانوا يتناقلون الأخبار وقتها بالقياس من حادثة إلى حادثة أُخرى، ولم يتجاوز الخبر التاريخي هذين البعدين:
الرواية.
تعيين الوقت التقريبي، فيعرف وقتها قياساً إلى ذلك الحدث الكبير، كحرب البسوس، وعام الفيل، ونحو ذلك، فيقال: حدث كذا قبل حرب البسوس بعامين، وحدث كذا بعد عام الفيل بعشرة أعوام. وقد ثبت دائماً أنّ مولد النبيّ صلى الله عليه وآله يؤرّخ بعام الفيل.
أمّا في الاِسلام؛ فقد تعارف المسلمون على التاريخ قياساً على أحداث دينية جديدة، كالمبعث النبوي، وعام الحصار في شعب أبي طالب، والهجرة إلى المدينة المنوّرة.
ومن المعلوم أن الرواية الشفوية تتغير بعض نصوصها بالحذف أو الزيادة على وفق المتغيرات البشرية والظروف الطبيعية، فضلاً عن عدم معرفة الكثير من ناقلي الروايات التاريخية للقراءة والكتابة، فأدّى إلى ضياع الكثير من الحقائق التاريخية التي لم يتم توثيق مضمونها بسبب ذلك، وعلى الرغم من دعوة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله إلى ضرورة التدوين بقوله: (قيّدوا العلم بالكتابة) ؛ ولكن للأسف لم تكن هناك الاستجابة الكافية لهذا الطلب، فعمر بن الخطاب منع تدوين الحديث النبوي، وشدّد في المنع حتّى بلغ الأمر فرض الحصار على الصحابة، وعدم السماح لهم بمغادرة المدينة، الأمر الذي أدّى إلى تزوير الحقائق وإماتتها شيئاً فشيئا.
ولم تظهر لفظة (التاريخ) بمعنى الكتاب الجامع للأحداث، حتّى النصف الأوّل من القرن الثاني للهجرة؛ إلا في كتاب التاريخ لعوانة بن الحكم المتوفّى سنة 147 هـ، ثمّ اعتمد بعد ذلك على نحو واسع، ومن بعده جاء هشام بن محمّد بن السائب الكلبي المتوفّى سنة 204 هـ، بعنوان (تاريخ أخبار الخلفاء)، وكتب الهيثم بن عديّ المتوفّى سنة 206 هـ، منها كتاب: التاريخ على السنين، وعلى الرغم من ذلك فإنّ إهتمام العرب للتاريخ بقي محصوراً في حدود الأنساب وأخبار الوقائع، ولم أقف على كتاب قديم يؤرخ للمدن في القرن الأول والثاني والثالث الهجري إلا ما ندر، والحال هذا فتح باب الاختلاف والاجتهادات الشخصية في الكتابة عن المواقع وآثارها ومعالمها على مصراعيه، وما زال أرباب التاريخ والآثار غير مكترثين بالتدوين والمتابعة مما جعلنا نتجه إلى ما يكتبه المستشرقون عن المدن والآثار والمعالم وغيرها,
فنرى أنّ الرحالة الإيطالي پيترو دلا ڤاليPetro Della Vallé ، أول من تعرف على مكان قصر الأخيضر في العصر الحديث، عندما مرّ به وهو في طريقه من حلب إلى البصرة عام 1625م. والرحالة الفرنسي جان باتست تافرنييه Jean-Baptiste Tavernier هو أوّل من تعرف على قصر مقاتل في صحراء كربلاء، ولم يتمكن من تحديد اسمه آنذاك لمجهوليته، وهكذا حال بقية المواقع الأثرية والتاريخية في العراق؛ لذا تم الاعتماد على ما دوّنه الكثير من المستشرقين للمدن والآثار، وأنّ أول من صرّح بوجود المخيّم الحسيني في كربلاء هو المستشرق تكسيرا كما سنرى في الصفحات القادمة.
ثانياً: مما لا شك فيه أنَّ للعامل السياسي دوراً كبيراً في ضياع الكثير من الإرث الفكري والثقافي والحضاري للشيعة نتيجة الاضطهاد الطائفي الذي مارسه الطغاة المستبدون ضد التشيع على نحو عام وبكل ما يتصل بمدينة كربلاء على نحو خاص؛ والشواهد التاريخية في ذلك كثيرة، إذ اجتهد الطغاة من بني أمية وبني العباس الذين فاقوا بني أمية في جرائمهم ضد العلويين، فهارون العباسي منع زيارة الإمام الحسين عليه السلام ، واقتلع السدرة، وحرث القبر، وتابعه في ذلك ما يسمى بالمتوكل الذي قام بهدم القبر وحرثه وهدم ما حوله من دور وقرى وتهجير الساكنين، واستمر الحال على هذا المنوال، فعاشت كربلاء بين شدة ورخاء وظلم واضطهاد، وفي أحسن الأحوال كان سعي الموالين منصباً في المحافظة على المشهد المقدس للإمام الحسين عليه السلام وما حوله من قبور أهل بيته وأصحابه، دون التفكير باستحداث مقامات وشواهد أخرى تتصل بشواهد النهضة الحسينية كالمخيّم الحسيني أو غيره، خوفاً من ردود أفعل الحكام المستبدين.
وعليه فلا نستغرب اليوم من وجود بعض الاختلافات بين المؤرخين في تحديد الموقع الجغرافي للمخيم الحسيني، إذ ذهب بعض المعاصرين إلى التشكيك في صحة موقعه الحالي كما سنبين.