السلم و الحرب في زيارة الحسين عليه السلام
(دور زيارة الأربعين في ترسيخ القيّم الدينية 1-4)
بسم الله الرحمن الرحيم و الحمد لله ربّ العالمين و صلّ اللهم على محمد و آله
الطاهرين.
يناسب على ضوء تجربة زيارة الأربعين في كربلاء المقدسة، و قراءة زيارات الحسين
عليه السلام في مواطنها و مناسباتها ذكر مجموعة من القيّم و المباديء الدينية
الاسلامية التي تتجلى في زيارة أربعين الإمام الحسين عليه السلام، حيث تشاهد
حركات الزائرين و المضيّفين في المواكب الممتدة مئات الكيلومترات، والسلم و
السلام و الاطمئنان و الاحترام ، و القيّم الأخلاقية من نبل و اجلال و احتفاء و
استضافة و ترحيب ، وكذا تسامح و صفح و تجاوز عمّا يقع من أخطاء، و الاجتماعية
من إحسان و إنفاق و تكافل، و قيّم الأخوة و المودة، و التعاون، و الكرم و الضيافة ، و
خدمة المؤمنين إلى غيرها من قيّم الدين الأخرى.
و أحد القيّم الدينية التي ترسخها زيارة الأربعين و التي ينبغي أن ترسخها أكثر تلك
الزيارة و تعززها و تثبتها أو تزيد في تثبيتها هو السلم و الحرب في زيارة الحسين
عليه السلام.
وهي من أهم القيّم الدينية التي ذكرها أهل البيت و كررها النبي و أهل بيته عليهم
السلام عدة مرات، و في عدة مناسبات، السلم و الحرب و الولاء و العَدَاء بمركزية و
محورية الحسين و أهل البيت عليهم السلام.
السلم و السلام و الأمان لمن هو في سلام مع آل النبي صلوات الله و سلامه عليهم
أجمعين، و مع الحسين و أولاد الحسين و أنصار الحسين و شيعة الحسين، و الحرب و
القتال و العراك مع من هو في حرب معهم.
ليس صدفة و لا اتفاقا طارئا أن يكرر أهل البيت عليهم السلام جملة «سلمٌ لمن سالمكم،
و حربٌ لمن حاربكم»، بل هي استراتيجية و خطة محكمة يُريد عليهم السلام من
شيعتهم العمل بها و الاهتمام بموضوعها وجعلها منهجا يتبعونه.
وقد وردت هذه الجملة في زيارة عاشوراء في موضعين :
الأول « يا أبا عبد الله إنّي سلم لمن سالمكم وحرب لمن حاربكم إلى يوم القيامة ..» ( 1 ) .
والثاني « إني سلم لمن سالمكم وحرب لمن حاربكم، و ولى لمن والاكم و عدو لمن
عاداكم، فأسأل الله الذي أكرمني بمعرفتكم و معرفة أوليائكم و رزقني البراءة من
أعدائكم أن يجعلني معكم في الدنيا والآخرة ..» ( 2 ) .
و وردت في زيارة الجامعة الكبيرة المروية عن الإمام الهادي عليه السلام:
« موال لكم و لأوليائكم، مبغض لأعدائكم ومعاد لهم، سلم لمن سالمكم، وحرب لمن
حاربكم،..» ( 3 ) .
2
كما وردت في زيارة الإمام الكاظم عليه السلام : عن أبي الحسن عليه السلام : وتقول
عند قبر أبي الحسن عليه السلام ببغداد :
«أُشهد الله أني سلمٌ لمن سالمكم وحربٌ لمن حاربكم ، مؤمنٌ بسركم وعلانيتكم ،
مفوّضٌ في ذلك كله إليكم ،..» ( 4 ) .
و يروى عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال لأمير المؤمنين و الحسن و الحسين
عليه السلام: «إنّي سلم لمن سالمكم ، وحرب لمن حاربكم » ( 5 ) .
و تأكد هذا المعنى بألفاظ متعددة في الروايات ، مثل: قول رسول الله صلى الله عليه
وآله في أمير المؤمنين عليه السلام:
« يا علي حربك حربي ، وسلمك سلمي » ( 6 ) .
«حرب علي حرب الله ، وسلم علي سلم الله » ( 7 ) .
« ولي علي ولي الله ، وعدو علي عدو الله » ( 8 ) .
و العبارة واضحة التقابل بين السلم والحرب، و أنّ الإنسان المؤمن الموالي لأهل البيت
عليهم السلام ينبغي ان يكون سلما لمن سالم محمدا وآل محمد ، و أن يكون حرباً لمن
حاربهم، و هذا في حالتي السلم و الحرب.
أما في حالة الحرب فالأمر بيّن و واضح و بارز فيجب الوقوف في صفوف آل محمد
والحرب ضد أعدائهم، و السلم مع من سالمهم، كأن يكون في عصر أمير المؤمنين
فيقف معه في المواقف كلها، بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه و آله، و في معارك
الجمل و النهروان و صفين و بقية معاركه الصغيرة، أو في عصر الحسين عليه السلام
فيقف معه في كربلاء ضد عدوه، كما كان أصحاب أمير المؤمنين و أصحاب الحسين
عليهما السلام في الوقوف معهما و الثبات و الشهادة.
و في حالة السلم أي الحالة العادية يعني الالتفاف حول رأية آل محمد عليهم السلام، و
مناصريهم، والأخذ عنهم و مسالمتهم و التسليم لهم، و التعاون و التضامن معهم، و
التهيؤ و الاستعداد لأمرهم و ندائهم.
و كذلك يعني في حالة السلم التبرئ من أعدائهم و إنكارهم بمطلق الإنكار القلبي و
اللساني و حتى الجسدي، و الحذر من أعدائهم و أتباعهم، و البصيرة و الادراك في ما
يُخطط له أعداؤهم و أعداء شيعتهم.
وهذه السلمية و الحرب مع المناصرين و المعادين، مطلقة و تعني في حالة السلم
الظاهري و الحرب جميع الأصعدة الاجتماعية و السياسية و الثقافية و العسكرية و
غيرها.
وعليه فترتيب و تنظيم الولاء و العداء بمحورية و قيّم الحسين و أهل البيت عليهم
السلام مطلق للموالي في كل مواقعه و مواقفه زائرا كان صاحب الموقف ، أو صاحب
موكب، أو مقيم مجلس، أو خادما في العتبة ، أو إعلاميا أو سياسيا أو غيرها.
و هذا التنظيم للولاء و العداء يرشد إلى الالتزام بقيّم و مبادئ الثورة الحسينية و يعني
وضع قاعدة أساسية مركزية و استراتيجية في العلاقات و الصداقات و الولاءات و
3
العداءات في كل الأزمنة و الأمكنة عنوانها السلم و الولاء لمن والى الحسين و آل
محمد عليهم السلام ، و العداء و الحرب لمن عادى الحسين و آل محمد عليهم السلام ،
و تعني رفض الولاء و العداء بالأهواء و المصالح الشخصية أو الفئوية أو غيرها.
وهي إرادة أهل البيت عليهم السلام بتأكيد وتكرار و أمر لشيعتهم حينما يقومون بزيارة
أهل البيت عليهم السلام و الحسين و يقفون عند قبورهم في معاهدتهم بالالتزام بسلم من
سالمهم و حرب من حاربهم و الولاء لمن والاهم و العداء لمن عاداهم، و حينما
يزورون دون هذه المعاني فليست هي الزيارة التي أرادها أهل البيت عليهم السلام، بل
تنقصها روح الزيارة التي هي الأصل.
و الروح هو تنظيم السلم و الحرب و الولاء و العداء بمحورية الحسين و أهل البيت
عليهم السلام، وجعله هو المنهج و المعيار و ليس شيئا آخرا، و ليس الهوى النفسي.
و لعل رواية الإمام الصادق عليه السلام تشير إلى الولاء السياسي و الولاية السياسية
لهم عليهم السلام فيما روي في تفسير العياشي عنه عليه السلام « يا أيها الذين آمنوا
ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان، قال : أتدري ما السلم؟ قال : قلت
أنت أعلم ، قال : ولاية علي والأئمة الأوصياء من بعده ، قال: وخطوات الشيطان والله
ولاية فلان وفلان» ( 9 ) .
و أحد الإشارات المهمة في زيارة عاشوراء هي الاستراتيجية و الاستمرارية في الولاء
و العداء على أساس أهل البيت عليهم السلام، بمعنى أنّ الأمر يمثل حالة استراتيجية
دائمة و ليس تكتيك مرحلي قابل للتغيير من حال إلى حال ومن زمن إلى زمن نتيجة
لاختلاف الظروف والأحوال، ولذا كان الخطاب في الزيارة « يا أبا عبد الله إنّي سلم
لمن سالمكم و حرب لمن حاربكم إلى يوم القيامة» ( 10 ) أي أبدا و دائما، فالمسالمة مع
المسالم، والمحاربة مع المحارب مستمرتان، و يعني امتداد حالة السلم مع الموالين و
حالة الحرب مع المعادين إلى يوم القيامة .
وهذه الحالة من السلم و الحرب بمحوريتهم عليهم السلام مسؤولية عظمى للزائر و
الموالي لهم عليهم السلام، و لها كلفة في الحياة الدنيا قد تصل في أعلى مراتبها و
مستوياتها إلى الشهادة، وفي أعظم الحالات خسائر في متاع الحياة الدنيا و زخرفها، و
لكنها أيضا نعمة عظمى لا يلقاها إلا ذو إيمان قوي و عظيم و إن لم يستشهد معهم،
فالأهم هو اتباع قيّمهم و مبادئهم التي هي مبادئ الدين الحقيقية.
و النعمة العظمى هي في الكينونة معهم، و الشفاعة عندهم، و الحشر معهم، لذلك هي
عند أصحاب البصيرة و الوعي، فكانت عند جابر بن عبد الله الأنصاري و لم تكن عند
آخرين كثيرين، و لعل ذلك جعل زيارة جابر في الأربعين مخلدة في التاريخ ، و روايته
مصداق واضح وجلي ، و حينما أقبل لزيارة الحسين قال « والذي بعث محمدا بالحق
لقد شاركنا كم فيما دخلتم فيه» ( 11 ) ، وحينما يستفهم متعجبا صاحبه في الزيارة عطية
العوفي فيقول له : « وكيف ولم نهبط واديا ، ولم نعل جبلا ، ولم نضرب بسيف ،
4
والقوم قد فرق بين رؤوسهم وأبدانهم، و أوتمت أولادهم وأرملت الأزواج؟» ( 12 ) ، يجيبه
جابر بيقين فيقول سمعت حبيبي رسول الله صلى الله عليه و آله يقول : «من أحبّ قوما
حشر معهم ومن أحبّ عمل قوم أشرك في عملهم، والذي بعث محمدا بالحق نبيا إن
نيتي ونية أصحابي على ما مضى عليه الحسين وأصحابه» ( 13 ) .
و في تاريخ الإمام الباقر عليه السلام المروية عنه زيارة عاشوراء قصة تبيّن الولاء و
العَدَاء، فقد روى الكليني في الكافي عن الحكم بن عتيبة قال :
بينا أنا مع أبي جعفر عليه السلام والبيت غاص بأهله ، إذ أقبل شيخ يتوكأ على عَنَزَة ( 14 )
له، حتى وقف على باب البيت فقال : السلام عليك يا ابن رسول الله ورحمة الله وبركاته
، ثم سكت فقال أبو جعفر عليه السلام: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته.
ثم أقبل الشيخ بوجهه على أهل البيت وقال : السلام عليكم ، ثم سكت حتى أجابه القوم
جميعا و ردوا عليه السلام.
ثم أقبل بوجهه على أبي جعفر عليه السلام ثم قال : يا ابن رسول الله أدنني منك جعلني
الله فداك ، فوالله إني لأحبكم وأحب من يحبكم ، و والله ما أحبكم و أحب من يحبكم
لطمع في دنيا ، و إني لأبغض عدوكم و أبرأ منه ، و والله ما أبغضه و أبرأ منه لوتر
كان بيني وبينه ، و الله إني لأحل حلالكم وأحرم حرامكم، أنتظر أمركم ، فهل ترجو لي
جعلني الله فداك ؟
فقال أبو جعفر عليه السلام إِلَيَّ إِلَيَّ حتى أقعده إلى جنبه .
ثم قال : أيها الشيخ إنّ أبي علي بن الحسين عليه السلام أتاه رجل فسأله عن مثل الذي
سألتني عنه فقال له أبي عليه السلام: إن تَمُتْ ترد على رسول الله صلى الله عليه وآله
وعلى عليّ والحسن والحسين ، وعليّ بن الحسين ، ويثلج قلبك ، و يبرد فؤادك ، وتقر
عينك ، و تستقبل بالروح و الريحان مع الكرام الكاتبين ، لو قد بلغت نفسك ههنا –
وأهوى بيده إلى حلقه - وإن تعش ترى ما يقر الله به عينك، وتكون معنا في السنام
الأعلى .
قال الشيخ : قلت : كيف يا أبا جعفر ؟
فأعاد عليه الكلام .
فقال الشيخ : الله أكبر يا أبا جعفر إن أنا مت أرد على رسول الله صلى الله عليه وآله و
على علي و الحسن و الحسين و علي بن الحسين ، و تقر عيني ، و يثلج قلبي ، و يبرد
فؤادي ، و استقبل بالروح و الريحان مع الكرام الكاتبين ، لو قد بلغت نفسي ههنا ، وإن
أعش أرى ما يقر الله به عيني ، فأكون معكم في السنام الأعلى ؟
ثم أقبل الشيخ ينتحب ، ينشج ها ها ها حتى لصق بالأرض.
وأقبل أهل البيت ينتحبون وينشجون، لما يرون من حال الشيخ ، و أقبل أبو جعفر عليه
السلام يمسح بإصبعه الدموع من حماليق عينيه وينفضها .
ثم رفع الشيخ رأسه فقال لأبي جعفر عليه السلام : يا ابن رسول الله ناولني يدك جعلني
الله فداك، فناوله يده فقبلها ، و وضعها على عينيه وخده ، ثم حسر عن بطنه وصدره ،
فوضع يده على بطنه وصدره ، ثم قام ، فقال : السلام عليكم.
5
و أقبل أبو جعفر عليه السلام ، ينظر في قفاه وهو مدبر ، ثم أقبل بوجهه على القوم
فقال : من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة ، فلينظر إلى هذا ، فقال الحكم بن
عتيبة : لم أر مأتما قط يشبه ذلك المجلس ( 15 ) .
ومحل الشاهد في كلام الشيخ الموالي « فوالله إني لأحبكم وأحب من يحبكم ، و والله ما
أحبكم وأحب من يحبكم لطمع في دنيا ، وإني لأبغض عدوكم و أبرأ منه ، و والله ما
أبغضه و أبرأ منه لوتر كان بيني وبينه ، والله إني لأحل حلالكم وأحرم حرامكم».
و في ترحيب الإمام الباقر عليه السلام له و تعظيمه حتى طلب منه القرب و أجلسه إلى
جنبه.
و في الرواية بيان واضح لمحبة أهل البيت لشيعتهم عليهم السلام الذين يطبقون
توصياتهم و يعملون طبق تعاليمهم ، ومعاملتهم بالتعظيم و التوقير و الاجلال كما فعل
الإمام مع الشيخ.
محمد جواد الدمستاني
28-ذي القعدة -١٤٤٣هجري الموافق 28 – 06- 2022 ميلادي
6
الهوامش
1 - كامل الزيارات، جعفر بن محمد بن قولويه، ص ٣٢٩ ، زيارة عاشوراء
2 - كامل الزيارات، جعفر بن محمد بن قولويه، ص 330 ، زيارة عاشوراء
3 - عيون أخبار الرضا ( ع )، ج ٢، الشيخ الصدوق، ص ٣٠٧
4 - كامل الزيارات، جعفر بن محمد بن قولويه، ص ٥٠١
5 - بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٣٧ - الصفحة ٧٨
6 - الأمالي، الشيخ الطوسي (محمد بن الحسن بن علي بن الحسن الطوسي)، ص ٣٩٤
7 - الخصال، الشيخ الصدوق (محمد بن علي بن الحسين بن بابويه)، ص ٥١٠
8 - الخصال، الشيخ الصدوق(محمد بن علي بن الحسين بن بابويه)، ص ٥١٠
9 - تفسير العياشي، ج ١، محمد بن مسعود العياشي، ص ١٠٩، و كذلك بحار الأنوار ، العلامة
المجلسي، ج ٢٤، ص ١٦١، و ج ٣١، ص ٦٠٤
10 - كامل الزيارات، جعفر بن محمد بن قولويه، ص ٣٢٩
11 - بحار الأنوار، ، العلامة المجلسي، ج 65 ، ص ١٣٣
12 - بحار الأنوار، العلامة المجلسي ، ج ٦٥، ص ١٣٣
13 - بحار الأنوار، العلامة المجلسي ، ج ٦٥، ص ١٣٣
14 - العَنَزة : عصا في رأسها حديد، وهي أطول من العصا وأقصر من الرمح ، يَتوكأَ عليها
الشيخ الكبير.
15 - الكافي، الشيخ الكليني، ج 8 ، ص ١٠٠