بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله ربّ العالمين وصلّ اللهم على محمد وآله الطاهرين
إنّ الاسلام يدعو و يحث على الزواج، و هو سكن و مودة و رحمة من الله سبحانه وتعالى: «وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً»[1]، و هو أكبر فائدة بعد الإسلام كما في الرواية : «ما استفاد امرء مسلم فائدة بعد الاسلام أفضل من زوجة مسلمة، تسره إذا نظر إليها، وتطيعه إذا أمرها، وتحفظه إذا غاب عنها في نفسها وماله»[2].
أما مع تعذر أن يكون الزواجُ سكناً ومودةً و رحمةً فإنّ الإسلام أتاح للزوجين إنهاء العلاقة بينهما و الانفصال بالطلاق، و وضع أحكاماً و قوانيناً لإنهاء العلاقة الزوجية، كما جعل فرصة وفترة مراجعة للزوجين للرجوع عن قرارهما إن رغبا في ذلك، قال تعالى :«وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ»[3]، و «الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ۖ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ»[4].
ونتيجة لوجود المسلمين في دول غير إسلامية تبتعد عن أجواء المسلمين ومحيطهم و المجتمع الاسلامي وبيئته، وتفتقر للمحاكم الشرعية الإسلامية، و لوجود الحاكم الشرعي، وهي عناصر فاعلة في تشكيل الأسرة أو فضها، فإنّ قضايا الأسرة والخلافات والمشاكل بين الزوجين تصبح أكثر تعقيدا، و حلها أكثر صعوبة.
و الخلافات و إن كانت طبيعة بشرية لكنها تستلزم مشاكل بين البشر صغيرة أو كبيرة، ضعيفة أو قوية، والزوجان غير محصنين من تلك الخلافات و المشاكل التي قد تعصف بالأسرة الواحدة فتفكك جدرانها و تسقط سقفها وهي مرحلة الطلاق.
و مع مرارة الطلاق في نفسه لكنه ليس الوحيد في عواصف المشاكل بين الزوجين بل يسبقه و يلحقه مشاكل أخرى تتفرع على الخلافات، بعضها أصعب من الطلاق نفسه.
من تلك المشاكل و الصعوبات معرفة جهة التحاكم بين الزوجين، فإنّ كثيرا من الحالات بين الزوجين المسلمَين في أوروبا و بلدان الغرب تبدأ بأنهما لا يعرفان الجهة الشرعية التي يجب أن يتحاكما لديها أو يلجَآن إليها، وكثيرا ما تحكم جهات غير ذات إختصاص في قضيتهما الخاصة.
و منها التداخل الذهني لديهم بين القانون المحلي الوضعي و القانون الشرعي الإسلامي، والخلط بينهما أو عدم القدرة على التمييز بينهما، وربما يحسب البعض الفصلَ القانوني طلاقا شرعيا وهما مختلفان.
ومنها غياب الأهل و الحَكَمَين من أهله و أهلها في أغلب حالات الأسر في أوروبا والغرب، فإنّ تلك المحكمة المصغرة التي أمر بها الله سبحانه و تعالى في كتابه في الآية : (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّـهُ بَيْنَهُمَا ۗ إِنَّ اللَّـهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا)[5]، تؤدي إلى نتيجة إيجابية إن حصلت فعلا، ومع غيابها يفقد الزوجان عنصرا في حل مشكلتهم في أضيق حدود.
و منها ندرة علماء الدين و أصحاب المكانة الاجتماعية و رجال الاصلاح عامة الذين قد يتصدَّون أو يتدخلون في حل الخلاف أو الخلافات الأسرية و يصِلُون إلى حالة تراضٍ بين الزوجين، بل ويعيش بعض المسلمين في مناطق بعيدة ليس فيها عالم أو مرشد ديني.
ومنها الجهل بحقوق الزوجين اتجاه الآخر، ومعرفة ماهو حق وماهو ليس بحق، فإنّ معرفة حقوق الزوج و الزوجة لكليهما يقلل من مشاكلهما و كذا في المعاناة في انفصالهما.
ومنها امتناع الزوج من الطلاق الشرعي عبثاً وإهمالاً أو ضغينةً أو انتقاماً و الذي يستلزم تعليق الزوجة فلا تكون مطلقة و لا متزوجة، وهذه كارثة، ولها آثار سلبية سيئة و متعددة.
حدث مرة أن اتصلت امرأة لمساعدتها في تزويج بناتها الثلاث قبل ما يقارب بسبع سنوات تقريبا، وقالت أنّ زوجها علَّقَهَا لمدة 18 سنة و ربما لازال التعليق حتى اليوم، وهما في بلدين متجاورين في أوروبا ولكن بين الزوجين قطيعة، وقد انعكس هذا التعليق سلبا على الزوجة آلاماً و أوجاعاً، و على البنات في التزامهنّ بالأحكام الشرعية و تدينهنّ، وحينما وُجد زوج صالح لإحداهنّ رفضت الالتزام بالحجاب الذي كان شرط له و فضّلت البقاء دون الزواج منه، والسؤال الذي يتردد في النفس هو بأيّ مقدار تتحمل المؤسسة الدينية المسؤولة هذه الأوجاع و الآلام للزوجة والأولاد و الانحرافات التي قد تحدث للأسرة من هذا التعليق.
و منها و في بعض حالات تعليق الزوجة قيام بعض الأزواج بالاستغلال السيئ للخلافات الزوجية حين وصولها لمرحلة الطلاق، وتحويله إلى صفقة تجارية يحسبها رابحة، وإصراره على الطلاق الخلعي ومحاولة ابتزاز الزوجة و أهلها في تخييرهم بدفع الأموال الطائلة أو تركها معلقة تكابد الآلام، دون رادع إيماني أو إنساني.
وفي بعض حالات التعليق قد تستعين الزوجة بالمحكمة الشرعية في بلدها و ترفع أمرها أو توكل غيرها في قضية طلاقها، و لكنها أيضا تصطدم بعمل الأجهزة الإدارية في تلك المحاكم من بطء و تأجيل وتأخير البت في القضية والمتابعة لها، و في بعض البلدان تصطدم بفساد القضاء و القضاة. و إنّا لله وإنّا إليه راجعون.
وهنا موضع الألم لعالم الدين او رجل الاصلاح فهو يراها مظلومة بعد سماع شَكواها، وترفع أمرها للمؤسسة الدينية وبعض تلك المؤسسات لديها نوع ارتباط بالحاكم الشرعي ، وتطول المدة و قد تستمر سنوات دون إقبال الزوج على الطلاق العادل، ودون ردع المؤسسة الدينية للزوج وتطليقه عن طريق الحاكم الشرعي، ويتجرع عالم الدين الاحراج في مراجعات الزوجة وأهلها في القضية المرفوعة من قبلهم دون قدرة واضحة على إجاباتهم ودون حل لقضيتهم.
المراحل الثلاث الزمنية بين الزوجين (مرحلة الخلاف، و مرحلة التعليق، ومرحلة الانفصال) بينهما تؤدي إلى نتائج كارثية و خاصة على الزوجة و الأولاد، و قد تؤدي في بعض الحالات إلى انحرافات و فساد للأسرة من زوجة و أولاد.
لكن مرحلة تعليق الزوجة من أخطر المراحل على الأسرة و المرأة خاصة و لها آثار سلبية كبيرة و خطيرة قد تؤدي إلى الانحراف والضياع والفساد بل قد يصل الأمر إلى أكبر من ذلك من فسق أو جحود بالحكم الشرعي، فإنّ ردة الفعل قد تكون طائشة، و قال والد زوجة معلقة من المسلمين يوما : (إذا كان ديننا لا يستطيع أن يحل مشاكلنا فالبحث عن دين آخر يلبي ذلك)!. ربما يقولها البعض جادا و البعض تهديدا و آخرون يأسا أو انفعالا، وعلى كل التقادير فإنّ الخلط بين أحكام الدين الشرعية وبين تطبيق تلك الأحكام الشرعية في المجتمع يؤدي بأصحاب المشكلة وهم أهل الزوجة المعلقة والزوجة نفسها إلى نسبة الدين إلى المؤسسة الدينية والقائمين عليها، وبالتالي قد يصل فهمهم القاصر إلى عدم قدرة الدين لحل مشكلتهم وليس عدم قدرة المؤسسة الدينية.
وفي غمرة المشكلة و اليأس من حلها لا ينبغي أن تظن أو تتوهم الزوجة أو أهلها بأن القانون الوضعي المحلي أحرص من الشرع و أهل الشرع في الرحمة للزوجة و الحفاظ عليها، وهذا يكون بتدخل أهل الشرع كأفراد أو كمؤسسات دينية نائبة عن الحاكم الشرعي.
والحل الحاضر يكون في ضرورة التدخل الفوري من المؤسسة الدينية للحاكم الشرعي مباشرة واعتباره وظيفة شرعية وتكليف لأجل المحافظة على أتباعها وضبط الحدود الشرعية بينهم بقدر المستطاع، وهذا التدخل مقرر في الشريعة الإسلامية وفي بحوث الفقهاء، وقد أثبتوا حق الطلاق للحاكم الشرعي و تمايزوا في التفاصيل، في حالة أصبحت الزوجة محرومة عن حقوق الزوجية مع المطالبة بها، وكذلك في حالتي فقدان الزوج أو غيابه.
وعمدة النظر في تطليق الزوجة من زوجها يكون في حالة تقصير الزوج في أداء حق النفقة، «الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّـهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ»[6]، و النفقة تشمل المأكل و الملبس و المسكن، وكثيراً ما يكون تقصير للأزواج في تأدية هذا الحق المتعدد إهمالا أو اعتمادا على يسار و غنى المرأة في الغرب.
ولكن لا يمكن إهمال الحقوق الأخرى في تدخل الحاكم الشرعي و تطليقه للزوجة، ومنها فقدان المعاشرة الحسنة ، قال تعالى:« وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ»[7]، وفي رسالة الحقوق للإمام زين العابدين عليه السلام:« وحق الزوجة أن تعلم أنّ اللَّه عزّ وجلّ جعلها لك سكناً وأنساً، وتعلم أنّ ذلك نعمة من اللَّه تعالى عليك، فتكرمها وترفق بها» فإذا انفقد السكن و الأنس و اعتبارها نعمة من الله ، وافتقرت إكرامَها والرفق بها، بل أصبحت معاشرة و معاملة الزوج لزوجته سيئة و قبيحة، و قد تصل الأمور إلى استعمال العنف و الضرب المتكرر و اليومي كما تشتكي بعض النساء، مع اصرار الزوج على عدم الطلاق و مطالبة الزوجة به، فهي من الحالات الضرورية لتدخل الحاكم الشرعي والمؤسسة الدينية و القيام بالتطليق إذا صدق موضوع سوء المعاشرة بما لا يطاق.
وكذلك في حالة الحرمان من الغريزة الجنسية الطبيعة التي يحتاجها البشر عامة ويسعون في طلبها و التي هي ركن أساسي في الزواج، تأتي أهمية تدخل الحاكم الشرعي في حالة تحقق هذا الحرمان للمرأة، و لا يكفي الانفاق مع الحرمان من الاستمتاع و نصح المرأة بالصبر، فإنّ صبر أكثرهن مع مكابدة الأحزان فإنّ منهنّ من لا يصبرن و يضجرن، و لا يعتبرن ذلك حلا لقضيتهنّ أو قضاياهنّ.
و في هذه الحالات المذكورة، و حالات غياب الزوج طويلا أو هجرته، أو سجنه، و مثلها من حالات حرمان المرأة من حقوقها الشرعية، و رفع أمرها للحاكم الشرعي تأتي ضرورة التدخل المباشر للمؤسسة الدينية التي تمثل الحاكم الشرعي في تسوية الطلاق العالق و إنهاء وضعية الزوجة المعلقة و إعطاء كل ذي حق حقه، أما عدم النظر و التنصل من هذه القضايا، أو توهم أنّ الاحتياط في عدم التدخل، أو الاكتفاء بتدوين القضية في ملف دون حلها، أو التسويف في التدخل لأجل حصول أمر متوقع أو غير متوقع، أو الاكتفاء بالنصائح و التوصية بالصبر، أو التفرج فقط، أو الاهمال الكلي و كأنّ شيئا لم يكن وكأنّ قضية لم تُرفع، فلوازمه على نقاء المجتمع الاسلامي وطهارة أفراده ونساءه خطيرة جدا.
إذن، تدخل الحاكم الشرعي مباشرة هو الحل الحاضر في حل الخلاف و في انهاء الزواج إن لزم وهو ضروري.
و كذلك رقابة الحاكم الشرعي فيما يطرح هذه السنين لتفادي حالات تعليق الزوجة و الظلم لها في المستقبل في حل احتياطي أو اضطراري بتوكيل الزوجة كشرط في عقد النكاح بينهما، وعلى ضوء شرط التوكيل في العقد تستطيع الزوجة تطليق نفسها فيما إذا حرمها الزوج عمدا و قصدا من حقوقها الشرعية، كما لو عَلَّقَها أو هَجَرَها لمدة طويلة، أو حَرَمَها من الإنفاق أو من حقوقها الشرعية عامة، أو استعمل معها العنف و الضرب و أصبحت الحياة معه “جحيم” كما تعبر بعض النساء المبتلات بالمشاكل الزوجية الشديدة.
وما كان طرح مثل هذا الحل في هذا الموضوع و توكيل الزوجة لو أنّ المجتمع يراعي الحدود الشرعية و الأخلاقية بين أفراده، و الأزواج فيما بينها، وهو وإن كان حلا للحالات المستقبلية لكنه على مستوى مستقبلي عام بعيد المدى سيكون له آثار سلبية أيضا وخطيرة، فلابد من تقييده ببعض الشروط بحيث تعطي ضمانة للأسرة و الزوجين معا و حفظ حقوقهما و كرامتهما، كمراجعة الحاكم الشرعي أو المؤسسة الدينية المعتمدة و المرتبطة بالحاكم الشرعي، أو المحكمة الشرعية النزيهة، و متابعة أهل الزوجين مباشرة قبل إجراء الطلاق.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يمنّ على المؤمنين و الأسر المؤمنة بالمودة والرحمة و يكرمهم بالهدى والاستقامة، أنه سميع الدعاء، و الحمد لله ربّ العالمين، وصل اللهم على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
[1] – سورة الروم ، آية 12
[2] – كتاب الكافي، الشيخ الكليني، ج ٥، ص ٣٢٧
[3] – سورة البقرة ، آية 228
[4] – سورة البقرة ، آية 229
[5] – سورة النساء ، آية 35
[6] – سورة النساء، آية 34
[7] – سورة النساء، آية 19
ليس بالضرورة ان يمثل المقال رأي الموقع ، انما يمثل رأي كاتبه .