د.أمل الأسدي
سيدةٌ حباها الله بحضورٍ متفرد في الذاكرة الإسلامية والإنسانية،هذا الحضور المتفرد تحوّل الی تمثلاتٍ متفردة أيضا في المخيال الشعبي الإسلامي والإنساني،فالأمة الإسلامية وهبها الله ثوابت راسخة ومتمكِّنة من تحقيق الوحدة ونشر المحبة إذا ما تم استثمار هذه الثوابت،وهي القرآن الكريم وسنة الرسول الأعظم وعترته الطاهرة،ولهذه الثوابت صور عديدة لها حضور في الواقع الإسلامي،ومن أبرز هذه الصور،صورة السيدة فاطمة الزهراء(رمز المحبة والإباء)فنجد اسم( فاطمة) من أكثر الأسماء المتداولة بين الشعوب الإسلامية،في آسيا وفي أفريقيا وقد يتم اختصاره الی (فاطمو)
فلا يخلو مجتمع من المجتمعات الإسلامية من حضور اسم فاطمة وإطلاقه علی بناتهم؛وذلك لما يحيط بهذا الاسم من هالة قدسية ومكانة لديهم.
ومن مقولة المصريين عن السيدة فاطمة الزهراء وهي: "الكاملة بنت الكامل والكاملة" تتبين لك صورة هذه السيدة وفرادتها لديهم،فلا توجد امرأة تتصف بأنها كاملة وأن أباها كامل وأمها كاملة أيضا!!
فهذا المقام لم يُمنح لسواها! ومن هذا الفهم الراقي تجد السجية والمحبة الفطرية وهي تتحدث في مواقف الحياة المختلفة في صعيد مصر، صعيدالخير والخضرة،فتجد الناس يقسمون بـ(النبي أبو فاطمة)وهذه ميزة ينفرد بها المصريون عن سائر الشعوب الإسلامية التي اعتادت أن تنادي الرسول بـ(أبو القاسم أو أبو الزهراء) وهذا ما جعل لاسم فاطمة حضورا واسعا في المجتمع.
ـ ولابد أن نذكر في هذا السياق أن الناس البسطاء في مصر يسمون فاطمة بـ (فاطنة) وهو مرتبط بفطنة السيدة فاطمة الزهراء الراسخة في مخيالهم،وقد نجد ذلك في (جوابات حراجي القط) لعبد الرحمن الأبنودي:
[إنتي يا فاطنة أغلى من الجوهرة واجدع من الدرة.
وحتى انا مش عارف معنی كلمة درة.
إنتي يا فاطنه أغلى ما ماسك في ايديا.
تحويشتي وعرقي ..
واكتر من كل كنوز الدنيا.
والمسألة في القول مع فاطنه مش محتاجة كلام.
يعنى أنا لو قلتلك جوهره حتقولي معزته زادت؟
إنتي عارفه حراجي وعارفه مقدارك].
ـ ومن النماذج الأخری لحضور السيدة فاطمة في المخيال الشعبي ما يُعرف بـ(كف فاطمة) أو (خمسة وخميسة)وهو حلية نسائية مزخرفة وملونة علی شكل كف،تصاغ من الذهب أو الفضة،فتلبسها النساء كتميمة لدفع الحسد والشر عنهن،وكأن كفَّ هذه السيدة تحضرُ لدفع الضرر،وهذا متأت من مكانتها في المخيال الشعبي الجمعي في أفريقيا،وكذلك تجد "كف فاطمة" في تركيا والجمهورية الإسلامية،وأيضا في البحرين إذ تسمی(يد فاطمة) وتلبس في العنق- غالبا- لدفع الحسد وقد ترتبط لديهم أيضا بالخمسة أصحاب الكساء، وكذلك نجد لكف فاطمة صدی في مجتمعات أوربا.
ـ و نجد حضورها في أنموذج آخر في تونس والمغرب وهو أنهم يطلقون علی(قوس قزح)تسمية(حزام فاطمة)وهو أيضا مرتبط بكناية أخری عن المرأة البدوية التي كانت تتحزم بحزامٍ ملونٍ،لتشد به رداءها المسمی بـ(الملحفة)وهو نوع من التيمن وإضفاء الهيبة والقدسية عن طريق هذا الاسم.
ـ ومن أجمل تمظهرات السيدة فاطمة في المخيال الشعبي هو:( خبز السبع فاطمات) وهو خبز تشترك في صناعته وخبزه سبع سيدات اسمهن (فاطمة) فيأكل من هذا الخبز من يتعرض لظلم أو يعاني الحبس،أو يشكو الغم والحزن فيُكشَف ضره أو يُطلَق من حبسه،وذلك لاعتقادهم أن ذكر السيدة فاطمة يجلب الخير والفرج ويهب الحرية.
ـ أصابع فاطمة: أكلة تونسية تتكون من رقائق العجين المحشوة بالبطاطا المسلوقة واللحم والبقدونس،ثم تُقلی وتؤكل،وهي تعود الی الأصل نفسه المتشكَّل في المخيال الشعبي،المرتبط بمكانة السيدة فاطمة الزهراء لدی المسلمين.
ـ وفي العراق نجد صورة السيدة فاطمة الزهراء في المخيال الشعبي بما يُطلَق عليه(عيش الزهراء) وهو خبز مخبوز بتنور الطين،يوضع عليه(الدهن الحر والسكر)ويوزع علی الجيران،كنوع من الشكر لله والاحتفاء بالسيدة فاطمة الزهراء وإظهار لمكانتها وفضلها في انجلاء كرب معين،وكان ذلك في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي.
ـ وفي العراق أيضا، نجد حضور السيدة فاطمة الزهراء في المخيال الشعبي بما يعَرف بتنور الزهراء،وهو تنور(الطين) الذي يُبنی في باحة المنزل أو فوق السطح،وحينما تمر الأسرة بضيق أو كرب،تقوم ربة المنزل بإشعال الشموع فيه،وتمد رأسها وتنادي الزهراء!!
وتقسم علی الله بحق فاطمة الزهراء أن يدفع عنهم الهم ويفك ضيقهم،وغالبا ما تتجنب الأسرة هدم التنور،ففي نظرهم أن هدم( تنور الزهرة) مجلبةً للشر،وعليه يجب بناء غيره مباشرة إذا ماتم تهديمه،وأما عن علاقة التنور بالسيدة الزهراء وربة المنزل العراقية،فهي تعود لما عُرفت به الزهراء من تعاملٍ أسريٍّ إسلامي راق،فكانت شديدة الارتباط بأسرتها ومنزلها،وكانت تطحن وتخبز بنفسها،لذا صار التنور رابطا لعطاء الأم ورمزا له ولتفاعلها من جهة،وصار رمزا يجلب البركة لارتباطه بالسيدة النبوية المباركة من جهة أخری.
ـ وفي العراق أيضا نجد حضور السيدة الزهراء في المخيال الشعبي بما يسمی بـ(تنور الزهراء) وهو يختلف عن سابقه،فهو مجسمُ تنورٍ صغير مصنوعٍ من الفخار، يغطی بقماش أخضر في بعض الأحيان،أو يُنقَش عليه اسم الزهراء ويُلوَّن،وهو حضور نابع من مكانة السيدة فاطمة الزهراء وإنعكاسها في الواقع الاجتماعي أي كراماتها التي تلمسها الناس،لذا صار كلُّ طالبِ حاجةٍ يصنع هذا التنور تيمنا بحلول البركة والتيسيير وتحقيق الأمنيات،أو ينذر أن يصنعه إذا ما قضی الله حاجته،كإعلان واحتفاءٍ بالفرج،فيعمد كلُّ من يراه إلی طلب حاجته أيضا،وقد يضع فيه ما تيسر له من مبلغ مالي رمزي،فيُجمَع المال ويُدفع الی الفقراء،أو يُطبَخ بقيمته الطعام ويُقدَّم الی الفقراء أيضا،وهذا كله مرتبط بالسيدة فاطمة وتعاملها مع أسرتها،إذ كانت تطحن وتعجن وتخبز بنفسها كما ذكرنا،ومرتبط بصورة سيدة نساء العالمين ومكانتها في العالم الإسلامي والإنساني.
ـ ومازلنا في العراق والبحث عن تمظهرات السيدة فاطمة في المخيال الشعبي،وهذه المرة مع طبق(شيلان الزهرة) وهي أكلة تتكون من(الماش والبرغل والرز)يتم طبخها لتكون حساءً كثيفا نوعا ما،ثم يُرَّش بالسمن الحيواني الذائب(دهن الحر)،وبعدها يُزيّن الطبق بقليل من العسل الأسود(دبس التمر)ويؤكل،ويُعتقد أن اسم فاطمة سيجلب البركة والوفرة في هذا الطعام ويعود بالخير علی آكله.
ـ وفي عراق المحبة المحمدية العلوية مازلنا،وهذه المرة الوقفة مع (عيش فاطمة)وهو حساء البقوليات المتنوعة،يوضع فوقه أحيانا(دبس التمر) وتجتمع الأسرة ليأكلوه ويطلبوا من الله أن يحفظ الأولاد ورب الأسرة،وبلهجة عراقية جميلة(ربي،بجاه الزهرة وأبُيها احفظ وليداتي"،وقد يُحضَّر هذا الحساء بكميات كبيرة ويتم توزيعه علی الجيران كنوع من الوفاء بالنذر أو في ذكری استشهاد الإمام زين العابدين.
ـ عيش فاطمة في دول الخليج، وهو نوع من الرز المطبوخ،يميل الی اللين أكثر، تُصنع فيه كالحفرة من الأعلی ويوضع فيها السمن العداني(الدهن الحر) الممزوج بدبس التمر ،فيسكب منه علی الرز ويؤكل باليد علی شكل كرات عجينية،وهو مرتبط أيضا بمكانة السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) في المجتمعات العربية والإسلامية.
ـ عيش فاطمة في الشام وهو طبق تقليدي مرتبط بالسيدة فاطمة الزهراء،ويكون نوعا من الوفاء بالنذر،فتطلب النساء طلبا معينا أوحاجة معينة من الله تعالی مع النذر بتوزيع (عيش فاطمة) ويتكون من البرغل المطبوخ بالسمن البلدي،ويقدَّم معه الخاثر والخضروات،وعادة ما تشترك نساء المحلة في طبخه،وأكثر المناطق التي تشتهر به هي منطقة البو كمال ثم دير الزور.
- حلوی الـ "سمنو" في الجمهورية الإسلامية: من صور السيدة فاطمة الزهرء في المخيال الشعبي الإيراني ما يتمثل في هذه الحلوی التي تُصنع من القمح والحنطة المنقوع لسبعة أيام،ثم يُطبَخ مع السكر والماء واللوز في قدور نحاسية كبيرة،وتغطی بقماش أخضر،يُعتقد أن السيدة الزهراء ستبارك هذا الطعام بكفها، تجتمع نساء المحلة من أجل طهوه وتقديمه،تبدأ طقوس الطبخ من المساء حتی الفجر.
ـ قرية "فاطمة"في البرتغال: "فاطيما"أو "فاتميا" اسم لقريةٍ ارتبطت بحادثة قديمة تعود إلی عام 1917م ،حيث كانت تظهر امرأة علی هيئة ملاك من النور لمجموعة مكونة من ثلاثة أطفال وهم (فرانسيسكو،خاسينتا،ولوسيا)
،وحين سألوها عن اسمها قالت:[أنا فاطمة ابنة الرسول] وقالت لهم:[لا تخافوا أنا ملاك السلام ، إلهي لديّ إيمان و اعتقاد بك ، إلهي إني أذوب بك حُبّاً ، و أنا أطلب الاستغفار منك لأجل أولئك الذين لا إيمان لهم و لا حبّ و لا اعتقاد " ومرت الأيام وتبين فضل هذه السيدة وحبها للناس،وحين مرض طفلان من الثلاثة بمرض رئوي حاد،اجتاح أوربا عام 1919م وتوفيا علی أثره، تبين أن كلامهما عما قالته السيدة(فاطيما)كان حقيقيا،إذ قالت لهم: أنهما سيلتحقان بها قريبا في الجنة،فرحلا وبقيت (لوسيا)علی قيد الحياة،فاعتزلت الدنيا ومضت في سلك الرهبنة،ثم صار هذا المكان كنيسة يقصدها الزائرون من كل مكان،يقفون ويدعون ويطلبون تغيير حياتهم نحو الأفضل،ويتمتمون بهذه الكلمات:(أنا الآن مضطر أن أبتعد عنكِ ، أنا الآن مجبر أن أنأى عنكِ في المكان ، إلا أنني أرجو من الله و أتوسل إليه أن لا يكون هذا آخر العهد مني ، و سيبقى الرجاء و هذا الشوق حيّاً في كياني و وجودي ، يا فاطمة وداعاً ، الوداع يا سيدتنا الزهراء الطاهرة)* وبهذه الأنفاس يتم مخاطبة فاطمة،سيدة المحبة الإنسانية،الكاملة ابنة الكامل والكاملة، كما يسميها المصريون ولايفوتنا أن نذكر أن في منطقة مصر الجديدة في القاهرة، توجد محطة وكنيسة باسم(سانت فاتيما) وهي مرتبطة بقصة السيدة(فاتيما) في البرتغال.
إن فاطمة الزهراء نقطة الضوء التي تشع عطاءً علی العالم،فهي أمُّ الأرض وهي مريم الكبری،وهي "أم أبيها"لذا اكتسبت هذا الحضور العالمي وهيمنت علی القلوب بوجودها،فالسلام علی تلك المحورية التي "عَلَى مَعْرِفَتِهَا دَارَتْ القُرُونُ الأُولَی.
*هذه القصة وتفاصيلها منشورة وموثقة، وقد تم تصوير الموقع في فيلم إيراني،وتظهر لكم التفاصيل بمجرد أن تكتبوا: قرية فاطيما أو مزار فاطيما في البرتغال.