بقلم (محمد علي جواد تقي)
"هل قرأت القرآن يا شيخ"؟! بهذه السؤال أجاب الامام السجاد "عليه السلام" ذلك الرجل الكوفي الذي واجه الإمام بينما كان ضمن قافلة "السبي"، وقد أنهال عليه بالسبّ والتشفّي، ثم إن الإمام كان مقيداً بالسلاسل والأصفاد من عنقه وحتى قدميه، فكان جواب الرجل الكوفي الكبير في السنّ: بلى؛ اقرأ القرآن.
قال الإمام السجاد: أما قرأت هذه الآية: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}، قال بلى؛ قرأت هذه الآية. فقال له الإمام: نحن أهل البيت يا شيخ!
ثم قال له، عليه السلام: أما قرأت هذه الآية: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}، قال بلى؛ قرأت هذه الآية، فقال له الإمام: نحن القربى الذين طلب منكم رسول الله المودّة لهم.
ليس فقط هذا الشيخ الكبير، بل كل من التقى بقافلة "السبي" بعد واقعة كربلاء، كانوا يجهلون هوية الجهة التي وقفت قبالة جيش ابن سعد، لأن الاعلام الأموي كان قد عبأ الناس على أنهم يقاتلون أناس خارجون عن طاعة "الخليفة"، وعليه؛ فانهم خارجون عن الدين.
واختيار الإمام السجاد للقرآن الكريم ليكون وسيلة التصحيح للاذهان، يدعو للتأمل والتوقف، فهو لم يتعكّز على نسبه لرسول الله، او أنه من أسرة هاشمية عريقة، او انه ابن سيد شباب أهل الجنة، وجدّه علي بن أبي طالب، وجدته الصديقة الزهراء، وهو ما لا يجهله أحد من المسلمين، بل حتى قادة الحزب الأموي يعرفون هذه الحقيقة جيداً، وعلى رأسهم يزيد.
الامام السجاد، ومعه عمته العقيلة زينب "عليهما السلام"، مدركان أن الامة انحدرت الى درك تنكرت معه لسنّة نبيها، فضلاً لتنكرها بيعتها لأمير المؤمنين يوم الغدير، ورفعت شعار "حسبنا كتاب الله"، فجعلت القرآن الكريم الجدار الاخير والوحيد الذي تستند عليه في عقيدتها، وهي دون معرفته، ولو بالشكل الظاهري منه، ولذا فان الامام يلزمهم بما ألزموا به أنفسهم، فأسقط في أيديهم في غير مرة طيلة المسير من الكوفة الى الشام، ومنها في العودة الى المدينة "مدينة رسول الله".
نفس الخطة اتبعتها العقيلة زينب في خطاباتها النارية في الكوفة، عندما وصفتهم بما وصف القرآن الكريم لمن ينقض الأيمان والعهود "أما بعد يا أهل الكوفة! يا أهل الغدر والقتل والختل، إنما مثلكم {كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ}"، وفي مجلس يزيد بالشام، ابتدأت خطبتها اللاهبة بالآية الكريمة: {ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى- أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ}، ثم خاطبته بتلك الصلابة والثقة العالية: "فَمَهْلًا مَهْلًا لَا تَطِشْ جَهْلًا، أَ نَسِيتَ قَوْلَ اللَّهِ: "وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ".
فمن صاحب العاقبة السيئة؟ ومن الذي كذب بآيات الله تعالى؟ هذه الاسئلة والاستفهامات كانت تلقى كالحِمَم في نفوس من كان حاضراً في تلكم المجالس، او انه سمعها فيما بعد، ثم كانت تمثل المعول الذي هدم ذلك جدار التضليل والخداع الأموي، فقد اتخذوا من آيات الكتاب المجيد وسيلة لكسب الشرعية السياسية، وإرضاء الناس بأنهم يمثلون الدين، ويحكّمون كتاب الله، وليس غيرهم، كما يفعل أشباههم اليوم عندما يفسرون الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}، بأنها تشير الى الملوك والحكام الذين جاء بهم البريطانيون والفرنسيون بداية القرن الماضي وفق خطة "سايكس بيكو"!
حسبنا كتاب الله
أزمة الإيمان التي عصفت بالأمة، وكانت شدتها أكثر في الكوفة، لم تنطلق من أول رسالة خرجت من الكوفة الى الامام الحسين بأن "أقدم الينا، فقد أينعت الثمار وأخضرّ الجناب، إنما تقدم على جندٍ لك مجندة"، وإنما تعود الأزمة في بذرتها الاولى الى ذلك اليوم التاريخي العصيب، حيث توقف الزمن للحظات إجلالاً للنبي الأكرم وهو في ساعاته الأخيرة من حياته الدنيوية، فقال قائلهم: "حسبنا كتاب الله" ليواجه به طلب النبي بأن "أحضروا لي دواة وكتف أكتب اليكم كتاباً لن تضلوا بعدي أبدا"، وهو على يقين بوقوع الضلالة من بعده، علماً أنه "صلى الله عليه وآله"، كان قد أعلنها غير مرة باقتران كتاب الله المجيد بعترته أهل بيته: "ألا واني تاركٌ فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما أن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا".
لسنا، في هذا الحيّز المحدود في وارد الحديث عن الاسباب التي حدت بشريحة واسعة من المسلمين بالتنصّل عن وصية نبيهم في التزام أهل البيت مرجعية شاملة لهم، ومصدراً للتشريع والاحكام والنظم في حياتهم، فهذا له بحث في الجوانب النفسية والاجتماعية والتاريخية، وما زالت هذه الترسبات قائمة الى اليوم، إنما نسلط الضوء على الثغرة الخطيرة التي أوجدتها هذه الترسبات في الاذهان، مهدت الطريق لاختراق التضليل، والتشكيك، ونشر الروايات الكاذبة عن النبي بحق من هم أعداء الدين كما تؤكد الشواهد والروايات التاريخية مثل معاوية.
والى هذه النقطة الدقيقة أشار أمير المؤمنين في محاججته الخوارج، وفي غير مرة حول العلاقة بينه وبين القرآن الكريم، وكيف يجب على المسلمين فهم القرآن، فعندما خاصموه بأن "أتراه عدلاً تحكيم الرجال في الدماء". فقال: إنّا لسنا حكمنا الرجال إنما حكمنا القرآن، وهذا القرآن إنما هو خطٌ مسطور بين دفتين لا ينطق إنما يتكلم به الرجال" (ذكره ابن الأثير والطبري)، وقبل أن يركب الخوارج رؤوسهم في واقعة رفع المصاحف، هتف بهم أمير المؤمنين بأن هذا هو القرآن الصامت وأنا القرآن الناطق، فلم يعبأوا به، فهرولوا خلف خديعة ابن العاص، وتركوا أمير المؤمنين الذي قال عنه النبي بأن "علي مع القرآن والقرآن مع علي"، وضغطوا عليه بأن يقبل التحكيم بالقرآن، فقبل، وما لبثوا فترة وجيزة حتى انقلبوا على اعقابهم ويطالبوا الإمام بالتوبة والتراجع عما اتفق عليه مع معاوية!
ولعل هذا يفسّر لنا شيئاً من اقتران أهل بيت رسول الله، وهم الأئمة المعصومون الاثني عشر، مع القرآن الكريم المنزل من السماء، بأن تكون عقائد الناس محمية من التشكيك والتضليل، وإلا فما أيسر على شخص مثل معاوية لأن يدفع من بيت مال المسلمين مبلغاً قدره أربعمائة ألف درهم، وبعض الروايات تقول أن الرشوة بلغت نصف مليون درهم لشخص مثل "سمرة بن جندب"، ليتقوّل على رسول الله بحديث مكذوب أن الآية الكريمة: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} نزلت في حق عبد الرحمن بن ملجم، وأن الآية الكريمة: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} نزلت في أمير المؤمنين.
فمن السهل جداً اكتساب المشروعية من القرآن الكريم، كما تفعل الانظمة السياسية في عديد البلاد الاسلامية اليوم عندما تعلو جدار "البرلمانات" الآية الكريمة {وأمرهم شورى بينهم}، أو العناية البالغة بتلاوة القرآن الكريم بتلك الأصوات الأخاذة في محافل دولية، ولكن! ما أن يأتي الحديث عن كتاب نهج البلاغة، يصمت الجميع! علماً أنه كتاب جامع لخطب ورسائل أمير المؤمنين، عليه السلام. وايضاً الكتب ومصادر الحديث المعتبرة التي تنقل روايات الأئمة المعصومين عن مختلف شؤون الحياة، واهتمامات الانسان، لا نرى أي اهتمام بها، وإن حصل ذلك فانه يرمى الى هامش الاضواء في وسائل الاعلام، ويبعد عن المراكز الاكاديمية والاوساط السياسية، لان فيها ما يجيب عن أي سؤال خارج إطار الزمان والمكان، وما فيه هو مفتاح لحل المعضلات والازمات الاجتماعية والاقتصادية وحتى النفسية لأفراد المجتمع والامة، وهو ما لا يريده أصحاب السلطة مطلقاً.
وقبل الختام؛ نجد أن الامام الحسين، عليه السلام، ونهضته الاصلاحية تمثل تلك الكلمة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء، تصدح بالحقّ والفضيلة، وهي الميزان بين الحق والباطل، فبدمائه ضمن الحياة للقرآن الكريم، بكل مضامينه العميقة التي لن يدركها أحد الى يوم القيامة، وهذا ما جعل هذه النهضة تحبط وبكل قوة أي محاولة تضليل او تزييف في الامة وتكشف حقيقة من خلفها ولو بعد حين.