بقلم (د. خالد الخفاجي)
قبل أن يكتب لي القدر زيارة المغرب وأقيم فيها لعدة سنوات، وإكمال دراساتي العليا، كنت أسمع من هنا وهناك، أنَّ من طقوس إخواننا المغاربة السنوية هو إحتفاؤهم بيوم عاشوراء، وكان الخبر يُساق باستياء، حتى كنتُ بصراحة أستنكرُ هذا التقليد الذي يعبّر عن الفرح في مناسبة ندرك جميعاً مدى حزنها.
وبعد أن سمحت لي الظروف لزيارة المغرب فعلاً لاحظت هذا التقليد الإحتفالي في يوم عاشوراء، ولكن ليس بحجم ما ينقل بشكل مبالغ جداً، فهو عبارة عن رشّ الماء في الطرقات بين الأهل والأحباب والجيران، وتوزيع الحلوى كما يطلقون عليها إخواننا المغاربة، لكنها المعجنات بمختلف أشكالها، إضافةً إلى فسحة من السرور والبهجة، هكذا كانت صورة التقليد المغربي ببساطة، ولا أخفي عليكم فقد شعرت بالاستفزاز وقررت الكتابة عن هذه الظاهرة التي ليست بمحلها في نظر الكثيرين من داخل المغرب ومن خارجه، وقبل أن أباشر في الكتابة عن هذه الظاهرة غير المألوفة لدينا؛ حاولت معرفة حيثيات هذا الإحتفاء من المغاربة أنفسهم وسألت الكثير من بسطاء الناس، لماذا يحتفلون بهذا اليوم الحزين الذي استشهد فيه إبن بنت رسول الله "صلوات الله عليه"، دفاعاً عن الحق وترسيخ رسالة جدّه المصطفى وحمايتها من سطو المنحرفين عليها، وكان الجواب إنهم يقلدون من سبقوهم من الأجداد، ثم توجهت بالسؤال ذاته إلى شريحة المثقفين من الأصدقاء، وكان الجواب: هو إحتفاء بنجاة سيدنا النبي موسى من فرعون، لكن في الواقع الإجابتين غير مقنعتين لأن أجدادنا المغاربة القدماء كانوا يقيمون العزاء تأبيناً وحزناً في هذه الذكرى الأليمة، وإلى يومنا هذا هناك مناطق في المغرب مازالت تستذكر إستشهاد الإمام الحسين بحزن وتأبين، هذا ما يتعلق بالإجابة الأولى، إما بالنسبة للإجابة الثانية، إن نجاة سيدنا موسى من بطش فرعون وجنوده عندما ضرب موسى بعصاه البحر فإنفلق إلى يابسة بإرادة الباري عز وجل، ونجى هو ومن آمن معه، وغرق فرعون وجيشه، فهي ليست في العاشر من محرم الحرام ، بل في الثامن من شهر ذو القعدة حسب بعض المصادر، ومصادر أخرى تقول إنَّ نجاة موسى في العاشر من محرم الحرام، وهذا ما يعتقده إخواننا المغاربة، لكن الأرجح أنَّ نجاة موسى في الثامن من شهر ذو القعدة، وهناك أحاديث نبوية ودلالات كثيرة تؤكد هذا الرأي، بعد هذه المقدمة عن إحتفال إخواننا المغاربة الذي يقتصر على تناول الحلوى ورش الماء، إلا أنَّ الطعام الذي يتناوله الناس في هذه المناسبة، والذي ألفناهُ في العراق منذ سنين طويلة هو توزيع "زاد أبو علي" الذي هو عبارة عن الرز والمرق المعروف "تمن وقيمة وشاي أبو علي وسبيل يا عطشان أي توزيع الماء تيمناً بعطش الإمام الحسين"، لكن اليوم تنوّعت أنواع الطعام التي توزَّع على الناس في ثواب أبي عبد الله الحسين بدءاً من الأول محرم وحتى أربعينية الإمام الحسين "عليه السلام" التي تصادف في العشرين من شهر صفر أي بعد أربعين يوماً على استشهاد سيد شباب أهل الجنة، وفي هذه الأيام أصبحت كربلاء مدينة الألق الحسيني، والوهج الذهبي المقدس حاضنةً بكل دفء الكرم والمحبة لزوار الإمام الحسين الذي يصل تعدادهم إلى عدة ملايين، وغطّت أزقتها وأرصفتها وساحاتها الوسطية شناشيل المواكب على شكل سرادق كبيرة، وتزيَّن واجهاتها الرايات الحسينية والسيوف والدروع، والقربة التي حملها سيدنا العباس قمر بني هاشم وحامل لواء أبي عبد الله الحسين في معركة الطف، ليجلب الماء الى أطفال الحسين، وقد جسّد الإيثار بأسمى صوره عندما نزل إلى نهر الفرات، ولم يشرب الماء وهو في أشد العطش لأنه يعلم أنَّ أخيه الإمام عطشان.
وبعد أيام ستملأ رائحة الطعام أنوف الزائرين وترى قدور الطبخ تترى في شوارع وأزقة المدينة المقدَّسة، وترسم الشوق والرضا على وجوه الوفود القادمة إلى كربلاء مشياً على الأقدام من كل محافظات العراق، فقد شهدت أربعينية الإمام الحسين في السنوات الأخيرة، مختلف أنواع الطعام الذي تفرش موائده في الشوارع حتى لا تستطيع رؤية الأرض من شدة الزحام، بعد أن كنا نمارس الطقوس الحسينية ونتناول "التمن والقيمة زاد ابو علي"، لكن مدينة كربلاء هذه الارض الخالدة، وشاعر ة الليل، وقبلة الزائرين ومحج المصلين، تتفرد في كرمها الذي لم تشهده أرض قبلها ولا بعدها، وهي تحتضن هذه الملايين الوافدة بين ذراعيها دون كلل أو ضيق، إنها كربلاء العشق الحسيني التي جعلت كل الأطياف والمذاهب والأديان تحذو حذوها في إقامة هذه الشعائر الحسينية الخالدة، لا لشيء ولكن لأنها تبقى كربلاء شاخصة مثل كوكب دريّ يشعُّ بنور القداسة على جسد التاريخ.
المصدر: https://www.azzaman.com/%D8%B2%D8%A7%D8%AF-%D8%A3%D8%A8%D9%88-%D8%B9%D9%84%D9%8A/