بقلم (هدى المفرجي)
كسحنة كالحة تصرخ في بوق صدئ يصدر من خلف قيد يرزح في القدم حينما أسدل الليل سترته القاتمة معلناً حزنه المتجدد كل عام ورسم خط السواد على حيطان البياض التي إبتلعت هيجائه وأحرقت رمضاؤه هنا من أرض كرب وبلاء...
بحزن يتوشح الأسود بدرجاته الغامقة بعدما تغير لون الحال وخفّ الصدى الذي كان يصدع كل عام فتبدّل وتنكّر وإنتقل من حال إلى حال بحزن بالغ معتم مبهم في الصدور فهجعت الروح من سكونها وسكبت عبرات واجبة في شرع المحبة التي قطعنا عهودها منذ القدم وتوارثها الأبناء كعرق يسير في الدم.
فما أشد وطأة الدنيا حينما تدبر على الانسان بمعروفها فتذكره بين حين وآخر بدقة خفيفة على باب الروح أن الدنيا زائلة فانية بعد حين ولكنما الأشد حينما يرى مرارة ونهاية سيادة الباطل ونكران الحق إلى أي منقلب كانت وما أخذ من كان فيها من ذل وهوان في الباطل وعبودية الدنيا.
قال الإمام الحسين (ع) في مسيره إلى كربلاء: "إِنَّ هذِهِ الدُّنْيا قَدْ تَغيَّرَتْ وَتَنَكَّرَتْ، وَأَدْبَرَ مَعْرُوفُهَا، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلا صُبَابَةٌ كَصُبَابَةِ الإِنَاءِ وَخَسِيسُ عَيْشٍ كَالْمَرْعَى الوَبِيلِ، أَلا تَرَوْنَ أَنَّ الحَقَّ لا يُعْمَلُ بِهِ، وَأَنَّ البَاطِلَ لا يُتَنَاهَى عَنْهُ، لِيَرْغَبْ المُؤْمِنُ فِي لِقَاءِ اللهِ مَحِقًّا، فَإِنِّي لا أَرَى المَوْتَ إِلا سَعَادَةً وَلا الحَيَاةَ مَعَ الظَّالِمِينَ إِلا بَرَمًا، إِنَّ النَّاسَ عَبِيدُ الدُّنْيا وَالدِّينُ لَعْقٌ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ، يَحُوطُونَهُ مَا دَرَّتْ مَعَائِشُهُمْ، فَإِذَا مُحِّصُوا بِالبَلاءِ قَلَّ الدَّيَّانُونَ" – ابن شعبة الحراني، تحف العقول، ص245.
إن أسوء ما في الأمر حينما ينقلب الدين إلى لغو على الألسنة، وعبودية لحطام الدنيا، فيُستخدم شماعة وآلة لدرّ المصالح غير المحقة، ولا فرق في هذا بين من يرتدي لباس الإيمان ويحوّل الدين إلى ناقة حلوب ومركب إلى جلب المصالح، وبين من هو على الكرسي ويستخدم الدين مبرراً وغطاءً لسياساته غير الصحيحة وغير القويمة، كما كان يزيد بن معاوية بن أبي سفيان.
إن في الدين والتزامه مصلحة حقة وأكيدة للإنسان، ومن السوء أن تكون علاقة الإنسان بالدين علاقة مصلحية، كأن يجعل من الدين مركباً إلى المصالح الباطلة، مادية أو معنوية، أو فخاً لإصطيادها، أو كأن يجعل عبادته لله وخضوعه له على حرف "أي على طرف" كما عبّر عن ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى: "وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ". (سورة الحج-الآية).
فكيف وإن لعب أصحاب الأوجه الكثيرة وهم متجردين من كل ما أتاهم به الله من رحمةٍ على أوتار سرب عاطفي بحت القسم الأكبر منه لم يدرك سوى كماليات الأشياء وظاهرها فكان التيه فينا بين صبغتيّن أدركهما كل من مر على مسامات المنطق واللامنطق فما كانت تجدي الألوان نفعاً إلا إن أتاها سواد أو فرض ما كان من الأبيض نفسه عليها ولكن النفس تهوى الإنعكاس وكل ما منعت عنه زادت تحدياً ورغبةً في الطرح بأحشائه باحثة عن شيء يثير فيها مكامن السؤال والاعتراك، فبحِثت وراء الرمادي ظناً منها أنها ستثبت نظرية ما استطاع الأسبقون اثباتها فإرتدت صبغة الإسلام تارة وصبغة مذهبية تارةً أخرى وتخبطت بين اثبات واخفاء.
بين شريعة ودونها من خوف يتملكها لشيء غير مدركين أساسه وكأنما النساء قد ارضعته كما الحنين للوالدين هكذا سار في الأحشاء بصورة غير منمقة ولا سطور شعرية، شيء شعبي هبّ في الصدور وأذبل العيون كبرنا عليه وسار في دم صغارنا فنجدهم قبلنا يبحثون عن سر ما إستطعنا حلّه حتى الآن، سر ثورة الحسين "عليه السلام" يستعد الجميع متسابقين لإحياء ذكراها فقط دون إدراك فحواها فكيف لو تشبعوا في أهدافها وإرتووا من كان ضمآن من مكامن عبرها فتجلت أسمى صور العطاء والمحبة على هيئة المحبين بفطرة نقية شفافة كنقاء الماء.
وعلى غير المعتاد من الطرح هذا العام، قم بنسج خلية صغيرة واحفظها في عقلك الباطن مصحوبة بتساؤل واترك هذه الأيام العظيمة تجيبك عنه كأنك في جوف مسلسل لامفر منه ومر عليك هذا الفاصل بالأسود الغامق.
إطرح سؤالك واترك أيام العزاء تجيبك فالحسين مدرسة بثّت كل العلم بأيام معدودات فاقت معلوماتها ما درسناه لسنوات والمقصود منها أن نستلهم درساً من دروس ثورته "عليه السلام"، ونستنشق نسيماً عذباً من رياحينه العطرة، ونستنير في دروب الحياة بشعلةٍ وهّاجةٍ من مشاعله الخالدة، ألا وهو الحب والعشق الحسيني.
وهذا وإن كان بحراً عميقاً يستحيل سبر غوره وعبوره، ولكن مسيرة الألف ميل تبدأ بخطوة، وستبقى كربلاء المُعلّى قرآن المحبين، وتبقى عاشوراء الحسين آيات ومصابيح الهدى وطريق وسفينة النجاة، وتبقى ملحمة الطف نبراس الحب الإلهي الذي يتجلّى في حبّ رسول الله وأهل بيت عترته الطاهرين.