بقلم (محمد علي جواد تقي)
"أشهد أنك قد أقمت الصلاة وآتيت الزكاة وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر"...
مع إنطلاق طلائع الزائرين المشاة من أقصى نقطة في جنوب العراق بإتجاه مرقد الإمام الحسين "عليه السلام"، حريٌ بنا مواكبة هذا الزحف المليوني السنوي لأداء زيارة الأربعين بالبحث والدراسة في أبعاد هذه الزيارة عقدياً، وإجتماعياً، وثقافياً لنكون جميعاً في الطريق الذي مضى عليه الإمام الحسين وأبنائه وأصحابه يوم عاشوراء، وحتى نكرر انتصاره في واقعنا المأزوم.
وقبل أن نصل الى كربلاء ونقرأ زيارة الإمام في يوم الأربعين (العشرين من صفر)، لابد أن نعرف الأهداف التي من أجلها واجه الإمام الحسين الحكم الأموي، ورفض بيعة يزيد بن معاوية، فهل كان يتطلع الى الحكم بمسوّغ شرعي وقانوني بأنه الخليفة بعد موت معاوية وفق إتفاقية الهدنة بين الأخير والإمام الحسن "عليه السلام"، وما عزز هذا الحق، برسائل البيعة وإظهار الولاء من شيوخ القبائل ورجالات الكوفة البارزين وعامة الناس؟ أم انه كان مشروعاً استشهادياً وحسب، ليحظَ بالمنزلة الرفيعة في الجنان؟.
التضحيات الكبيرة لقضية كبرى
كل الأنبياء والمرسلين والصالحين قدموا تضحيات جسام في طريق نشر رسالة السماء الى البشرية، فتعرضوا للأذى والمطاردة والقتل، وعندما كانوا يبلغون رسالات الله الى مجتمعاتهم كانوا يعلنون: (وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ)، وقد وردت هذه الآية بصيغ عدّة في القرآن الكريم، فكانوا يطلبون ثمن أتعابهم وتضحياتهم من الله تعالى، وليس من أهل قومهم، ما عدا خاتم الأنبياء محمد "صلى الله عليه وآله"، وهو القائل: "ما أوذي نبي مثلما أوذيت"، عندما ميّز أجره بأن يكون (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)، إنما الفارق بين تضحيات كل هؤلاء العِظام، وبين الإمام الحسين "عليه السلام"، أنه لم يكن وحده في هذا الطريق، بل كان معه النساء والأطفال، وهذا يدعونا للتأمل في جواب الإمام لمن نصحه بعدم اصطحاب النساء والأطفال معه إن كان يعلم مصيره، فقال: "شاء الله أن يراهن سبايا"، بمعنى أن القضية إلهية محضة تتعلق بإمتداد رسالته الى البشرية الى يوم القيامة.
إن الثقافة الدينية كانت حاضرة في سلوك وتفكير عيال الإمام الحسين، كما كانت حاضرة ايضاً في الخُلّص من اصحابه، فهم يعرفون سلفاً أنهم سيواجهون الموت والسبي والضغوط النفسية وكل شيء دون قيم السماء، وكتاب الله المجيد، والأحكام والأخلاق وكل ما يتضمنه الدين من منظومة تشريعية وأخلاقية كاملة، وإلا بماذا نفسّر موقف العقيلة زينب وهي عند جثمان الإمام الحسين، وهو في تلك الحالة المريعة وقد تعرّض لما لا يمكن وصفه وتصوّره من الضرب بالسيوف والسهام والرماح، فبدل أن يعلو صوتها بالبكاء والعويل أمام جموع الأعداء، تضع يدها تحت الجثمان الطاهر وتقول: "اللهم تقبل هذا القربان من آل محمد".
نعم؛ العقيلة زينب، تقدّم الإمام الحسين، وهو إمام معصوم، وخامس أصحاب الكساء، وسيد شباب أهل الجنة، قرباناً لله لتبقى الصلاة، والصيام، والحج، والجهاد، والحرية، والمساواة، والعدل، وسائر الاحكام والقيم والمفاهيم لها تجسيد حيّ ومصاديق عملية في المجتمعات الاسلامية الى يوم القيامة، وأن لا يكون مصيرها مصير الديانة المسيحية التي تركها نبي الله عيسى، عليه السلام، للحواريين نقيّة كما ارسلها الله تعالى لأهل زمانه، فتحولت من بعده الى طقوس عبادية لا تتعدى جدران الكنيسة، وليوم واحد في الاسبوع.
نهضة الامام الحسين بوجه الظلم والانحراف والتضليل أعطت درساً لكل الأجيال بأن لا يرضخوا لقيم ومفاهيم يزيد ولا يكرروا تجارب الجُبن، والخذلان، والسكوت على الباطل، وفي نفس الوقت أن يرفضوا الإسلام الذي يتقمّصه الحكام وحتى الاشخاص والجماعات من بعده، فمعركة الامام الحسين لم تكن ضد جيش عمر بن سعد، او عبيد الله بن زياد، ولا حتى يزيد فقط، وإنما كانت ضد شخصية شريح القاضي ايضاً، ومن على شاكلته، الذي كرر تجربة علماء بني اسرائيل الذين ذمّهم القرآن الكريم بأبشع الأوصاف: (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْب)، و(مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً).
الأمويون ومحاولة قتل الدين في كربلاء
مقولة الأمويين قبل واقعة الطف بأن "لا تبقوا لأهل هذا البيت نافخ نار ولا طالب ثار"، بمعنى الإبادة الجماعية الشاملة للنساء والاطفال، فضلاً عن الكبار، تثير تساؤلاً حول سبب هذا الحقد والكراهية غير الطبيعية لأهل بيت رسول الله، فهم حشدوا القوى للضغط على الامام الحسين لأن يبايع يزيد لا غير، فلماذا هذا النداء البشع، وجاء في الروايات أن جيش ابن سعد لما وصل الى خيمة الامام السجاد، تفاجأوا بوجود رجل شاب حياً يرزق فأرادوا قتله على الفور لولا أنّ عمته العقيلة ألقت بنفسها عليه ومنعتهم من ذلك تنفيذاً لوصية الإمام الحسين بأن تحافظ على البقية من نسل رسول الله.
الحقد الدفين كان في نفوس من هم في الخطوط الخلفية لذلك الجيش، تغذيه كراهية شديدة تعود الى السنوات الاولى من ظهور الاسلام في مكة، وكيف أن رسول الله، بتضحياته وصموده تمكّن أن يثبت لأهل مكة، ومن ثمّ لأهل يثرب (المدينة فيما بعد) بأنه على حق، وأن عبدة الأوثان على باطل.
وفي ساعات المعركة الفاصلة كادت الصلاة أن تكشف زيف التقمّص الأموي بالدين، عندما طالبهم الإمام الحسين بالكفّ عنهم ليؤدوا فريضة صلاة الظهر فكان الجواب بالنبال مما تسبب باستشهاد بعض أصحاب الإمام خلال فترة الصلاة نفسها، ومن نافلة القول: أن هذه الصلاة جاءت بتذكير من أحد الأصحاب الذي تميّز بين المتميزين من الأصحاب جميعاً وخلّد اسمه في التاريخ عندما رفع رأسه الى السماء وقال: "حان وقت الصلاة"، وهو أبو ثمامة الصائدي، فكان جزاءه العظيم من الإمام الحسين أن قال له: "ذكرت الصلاة جعلك الله من المصلين".
فأي صلاة يقصدها الإمام الحسين، وهو يرى أن عبيد الله بن زياد وعمر بن سعد وأشباههم يصلون الخمس في المساجد كل يوم؟!
إنها الصلاة التي تجسّد الدين بكل أحكامه وقيمه، وليست الصلاة بحركاتها الظاهرية وحسب، ولذا كانت علاقة الإمام الحسين بالصلاة "علاقة جوهرية وتكاملية"، (الامام الحسين وفروع الدين- آية الله السيد مرتضى الشيرازي)، وهي رسالة عاشورائية على مر الزمان بأن تكون الصلاة مفتاحاً لمعرفة الدين، و رسوخ الإيمان، وما أروع أن تكون هذه المعرفة من خلال الامام الحسين ونهضته وتضحياته، فحبنا للإمام الحسين، من خلال إقامة مختلف اشكال الشعائر الحسينية، ومنها المشي لمسافات بعيدة لزيارته يوم الاربعين، ستكون طريقاً الى حبنا الحقيقي والناصع للصلاة وللدين الذي أنزل بشرى ورحمة لنا وللعالمين.
نحن نقرأ في زيارة الإمام الحسين: "أشهد أنك قد أقمت الصلاة وآتيت الزكاة وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر". وهذه من فروع الدين التي ضحّى من أجلها الامام، وبمقدار حبنا وتعلقنا به وبقضيته ومصيبته، يكون فهمنا لفروع الدين، وأصوله ايضاً، وهو الطريق الذي ينبغي ان يطويه كل مُحب وموالي، ليس فقط أيام شهر محرم، وخلال زيارة الأربعين، وإنما في سائر الايام، فقد "يكون الانسان متديناً بما للتدين من معنى، لكن التدين الأسمى هو إقامة الدين، فان إقامة الدين له معنى آخر متعدي، بينما التدين معناه لازم، فمرة تقول: "أشهد إنك صليت"، ومرة تقول : "أشهد إنك أقمت الصلاة، فهذه الإقامة إحياء الصلاة على مستوى المجتمع الانساني، والمحافظة عليها من الإندثار، وبذلك نفهم أن الامام الحسين نشر ثقافة الصلاة ورسالتها الجوهرية وفلسفتها ومعانيها الحقيقية في المجتمع".
وبما أن الإمام الحسين أقام الصلاة ضمن إقامة منظومة الدين بأكمله، فإننا نعرف مدى حساسية وخوف أعدائه من هذه الصلاة ومن هذا النوع من التديّن، ولذا فإنهم بقتله "عليه السلام"، في أرض كربلاء كانوا يرومون قتل الدين كله في كيان الأمة، فهل تمكنوا من ذلك يا ترى؟!