فأراد ابن عباس الكلام ونصب يده للمخاطبة فأشار إليه الإمام الحسين (ع) وقال: (على رسلك فأنا المراد ونصيبي في التُّهمة أوفر) فأمسك ابن عباس فقام الحسين (ع) إلى أن قال: عن (البيعة وهيهات هيهات يا معاوية فضح الصبح فحمة الدُّجى، وبهرت الشمس أنوار السُّرُج، ولقد فضَّلتَ حتى أفرطتَ، واستأثرتَ حتى أجحفتَ، ومنعتَ حتى بخلتَ، وجُرتَ حتى جاوزتَ، ما بذلت لذي حقٍّ من أتمِّ حقِّه بنصيب حتى أخذ الشيطان حظه الأوفر، ونصيبه الأكمل، وفهمتُ ما ذكرتَه عن يزيد من اكتماله وسياسته لأمة محمد، تُريد أن تُوهم الناس في يزيد كأنك تصفُ محجوباً، أو تنعتُ غائباً، أو تُخبرُ عمَّا كان مما احتويتَه بعلم خاص، وقد دلَّ يزيد من نفسه على موقع رأيه، فخُذ ليزيد فيما أخذ به من استقرائه الكلاب المتهارشة عند التهارش، والحمام السُّبَّق لأترابهن، والقينات ذوات المعازف وضروب الملاهي؛ تجدهُ ناصراً ودع عنك ما تُحاول فما أغناك أن تلقى الله بوزر هذا الخلق بأكثر مما أنتَ لاقيه فوالله ما برحتَ تُقدم باطلاً في جور، وحنقاً في ظلم، حتى ملأتَ الأسقية، وما بينك وبين الموت إلا غمضة، فتُقدم على عمل محفوظ في يوم مشهود ولات حين مناص..). (جمهرة الخطب: خ246)
هذا هو الحق الصُّراح نطق فيه المولى أبو عبد الله الحسين (ع) في وجه معاوية، ولم يُداهنه، أو يُراعي سلطانه الذي بُني على الباطل منذ اليوم الأول، فالصراحة والوضوح كانت في المسيرة الحسينية المباركة، ولذا تراه في نهضته لم يتنكب الطريق العام الذي تسير عليه القوافل كما فعل عبد الله بن الزبير وغيره، بل سار جهاراً نهاراً من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة، ومنها إلى العراق على الطُرق المعروفة والمألوفة، وكان كل مَنْ يلتقي به كما يقول الإمام الراحل (قدس سره الشريف): "وكان الإمام (ع) في طريقه يخطب في الناس ويُعلمهم بقصته، فبعضٌ يلتحقُ به وبعضٌ يتركه، وكان ركبه عند خروجه إلى العراق نحو ألف فارس ومائة راجل، وفي ليلة عاشوراء أمسوا وهم مائة تقريباً، فلم يبقَ إلاّ الخُلَّص من الأصحاب الذين لم يريدوا من نصرتهم للحسين (ع) إلاّ وجه الله تعالى". (من حياة الإمام الحسين (ع) السيد محمد الشيرازي: ص109)
ومن منازل الطريق إلى أرض المعراج في كربلاء كانت للمولى (ع) محطة أساسية حيث إلتقاه ذاك الرجل الكبير "الطرماح بن عدي بن حاتم الطائي" وكان من أصحاب أمير المؤمنين (ع) وقد أرسله إلى معاوية وقضيته معه معروفة، ومشهورة، وكان من القادة الكبار ومن أصحاب الحسن والحسين (ع)، وكان رجلاً بليغاً ومفوّهاً، طوالاً، وكان رأس وزعيم قبلة طيء العربية المشهورة.
ونأخذها من الإمام الراحل (رحمه الله) حيث يقول: "ولما وصل الإمام الحسين (ع) منزل (أجأ)، جاءه الطرماح بن عدي بن حاتم الطائي وطلب من الإمام (ع) أن يبقى هناك في ضيعته وبستانه، فإنه مكان آمن نسبياً، وإذا هجم الأعداء على الإمام (ع) فإن عشيرة طي، وهم أكثر من عشرين ألف مسلح، سيدافعون عنه.
روي أن الطرماح، قال: لقيتُ حسيناً (ع) وقد امترتُ لأهلي ميرة (الطعام)، فقلتُ لـه: أذكِّرك في نفسك لا يغرَّنك أهل الكوفة، فوالله لئن دخلتها لتُقتلن وإني لأخاف ألا تصل إليها، فإن كنتُ مجمعاً على الحرب فانزل أجأ (أحد جبلي طيء وهو غربي فيد وبينهما مسير ليليتين وفيه قرى كثيرة)، فإنه جبل منيع والله ما نالنا فيه ذلُّ قط، وعشيرتي يرون جميعاً نصرك، فهم يمنعونك ما أقمت فيهم".
فقال الحسين (ع): (إن بيني وبين القوم موعداً أكره أن أُخلفهم، فإن يدفع الله عنَّا فقديماً ما أنعم علينا وكفى، وإن يكن ما لا بد منه ففوز وشهادة إن شاء الله).
يقول الطرماح: ثم حملتُ الميرة إلى أهلي وأوصيتهم بأمورهم وخرجتُ أريدُ الحسين (ع) لأنصره، فلقيني سماعة بن زيد النبهاني فأخبرني بقتله (ع) فرجعت". (من حياة الإمام الحسين (ع) السيد محمد الشيرازي: ص113، عن بحار الأنوار: ج44 ص369)
فلماذا رفض الإمام الحسين (ع) أن يلتجئ إلى جبال طيء المنيعة وفيها عشرين ألف مقاتل يُدافعون عنه، وكان ذلك بضمانة سيد القوم الطرماح بن عدي الموالي المخلص في ولائه؟
لأن الإمام الحسين (ع) أراد الوضوح في حركته، والصَّراحة في مقاومته للظلم والطغيان لترى الأمة كاملة وتسمع بمسيرته المباركة، فيختط فيها طريقاً صحيحاً للثورة، وينهِّج فيها منهجاً إيمانياً في القيام في وجوه الظالمين فتكون المسيرة منهجاً ودستوراً لكل الأحرار في العالم، ولهذا رفض المولى كل العروض التي كان يُشمُّ منها الخوف، والغموض، والفرار والهروب من المواجهة الحتمية مع الظالمين.
وهذا ما صرَّح به لهم في صبيحة الكارثة يوم عاشوراء حيث عرضوا عليه البيعة فقال: (لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقرُّ لكم إقرار العبيد (لا أفرّ فرار العبيد)، يأبى الله ذلك لنا ورسوله (صلى الله عليه وآله) وحجور طابت وطهرت، فلا تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام). (تاريخ الطبري: ج4 ص 323، ومقتل الحسين للمقرم: ص280)
فالإمام الحسين (ع) وضع في نهضته منهاجاً للناهضين، وبيَّن دستوراً للثائرين، عبر العصور والدهور ليقول لهم: إذا أردتم أن تخلدوا، وتنجحوا، وتنهضوا لمقارعة الطغاة والظالمين فكونوا مع الأمة على وضوح تام، وصراحة كاملة، وإياكم من اللفِّ والدوران، والكذب والنفاق، أو الفرار من المواجهة كالعبيد، فالأحرار لا يرهبون الموت في سبيل الله وإحقاق الحق.
وهذا ما بيَّنه المولى (ع) في كلمة صارت شعاراً للأحرار وطلاب الحرية في العالم أجمع إلى اليوم حيث قال: (ألا وإن الدَّعيّ بن الدَّعيّ قد ركّز بين اثنتين: بين السلّة، والذلّة؛ وهيهات منّا الذلّة، يأبى الله ذلك لنا ورسوله، وحجور طابت وجدودٌ طهرت، وأنوفُ حميّة ونفوسٌ أبيّة من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام). (اللهوف :57)
فالموت الذي يخافه الناس ويرتعب منه الأرجاس والطغاة ما هو إلا أشهى من شربة العسل – كما قال الشبل الحسني الشهيد القاسم بن الحسن (ع) – لأنه في سبيل الله وطاعة الإمام ومحبته وأهل الحق (لا يخافون أوقع الموت عليهم أو وقعوا على الموت ما داموا محقين) – كما قال الشبل الحسيني علي الكبر (ع) لوالده (ع) في إحدى منازل الطريق، فهؤلاء الكرام (يستأنسون بالموت استئناس الطفل في محالب أمه)، بوصف سيد الشهداء لأصحابه لأخته السيدة زينب (ع) في ليلة عاشوراء.
فالإمام الحسين (ع) كان يرفض أي شائبة يمكن أن يتعلق بها أحد من الأجيال القادمة وفيها نوع من الغموض، أو الخوف، أو يمكن أن تُشكل زاوية معتمة في مسيرته لتكون منهجاً واضحاً، وطريقاً لاحباً للأحرار والثوار في الأجيال إلى أن ينهض الآخذ بثأره (عجل الله فرجه).