أذكت الثورة الحسينية الروح الثورية لدى المسلمين والتي حاول الأمويون إخمادها، واستمرت تلك الروح في الثورات التي نهجت أهدافها والتي اتخذت من كربلاء وعاشوراء عاملاً مهماً من عوامل إثارة النفوس فكانت كربلاء رمزاً وشعاراً وروحاً لكل الثورات التي تلتها.
وقد مثّل شعر الرثاء الحسيني دوراً مهماً في إحياء تفاصيل تلك الثورة، بل كان من أكبر عوامل التأثير في النفوس خصوصاً وأن الثورة كانت عبارة عن مأساة وفاجعة تجلّ عن الوصف، وقد كان دور الأئمة المعصومين "عليهم السلام" كبيراً في ترسيخ واقعة الطف بكل تفاصيلها في ضمير الأمة وإبقائها حية من خلال التأكيد والدعوة إلى تشجيع الشعراء على ذكر الحسين، وعقد المجالس الشعرية الخاصة برثاء الحسين "عليه السلام" والحث عليه.
فقد حرصوا "عليهم السلام" أشد الحرص على إبقاء روحية الثورة الحسينية ومبادئها متجذّرة في النفوس وحية في الضمائر ولهم في ذلك روايات كثيرة جداً، وإستمرت هذه الأشعار في تصعيد روح الثورة في الوجدان الشعبي حتى أصبح هذا الشعر ما لا يمكن حصره أو تعداده.
يقول الشيخ "محمد جواد مغنية": ما عرفت البشرية جمعاء من أبنائها قيل فيه من الشعر ما قيل في الحسين بن علي.
وتقول الدكتورة "بنت الشاطئ": ما أحسب أن التاريخ قد عرف حزناً كهذا طال مداه حتى استمر بضعة عشر قرناً دون أن يفتر، فمراثي شهداء كربلاء هي الأناشيد التي يترنّم بها الشيعة في عيد حزنهم يوم عاشوراء في كل عام، ويتحدّون الزمن أن يغيّبها في متاهة النسيان.
ولم يقتصر هذا الشعر على لغة العرب وحدها، ولا على المسلمين وحدهم، فتمجيد الثورة ضد الظلم هو تمجيد للمبادئ الإنسانية جمعاء، وقد كانت ثورة الحسين عالمية بكل مقاييسها وقيمها ومبادئها السامية فغطى صداها جميع أصقاع العالم وأصبحت كربلاء أنشودة الحرية في فم الأجيال،
فقد شكّل شعراء المراثي الحسينية أقطاب الشعر الفارسي والهندي والألباني والتركي إضافة إلى العربي وهذا ما يبرز واضحاً في المؤلفات القيمة للشيخ المحقق الكبير والمفكر الفذ الأستاذ "محمد صادق الكرباسي" الذي بذل جهداً عظيماً في رفد المكتبة الإسلامية والعالمية بهذه المؤلفات النادرة المصادر من كتب دائر المعارف الحسينية.
ففي كتابه ديوان الشعر التركي ــ الجزء الأول ــ استقصى "الكرباسي" نتاجات الشعراء الأتراك وتتبع آثارهم بأهمية بالغة وعناية شديدة، وحرص على أن لا يفوته شيء من هذا الشعر في رثاء الإمام الحسين "عليه السلام"، ويلاحظ ذلك من خلال الفترة التي حددها لبحثه في الكتاب وهي ثلاثة قرون تبدأ من اليوم التاسع والعشرين من الشهر الثامن من عام ألف ومائتين وأربعة، وتنتهي باليوم السابع من الشهر العاشر من عام ألف وخمسمائة واثنين وتسعين ميلادية، الموافق من الرابع عشر من الشهر السادس عام خمسمائة وثلاثة وثمانين إلى الخامس عشر من الشهر السابع من عام تسعمائة وواحد وسبعين من الهجرة.
ويدل تحديد هذه الفترة بهذه الدقة المتناهية على الاهتمام البالغ بهذا الشعر، وترجمته، والحرص على توثيقه، وتسليط الضوء عليه، وبذل الجهود، وتحمّل المشاق في سبيل إخراجه إلى النور، وربما يُستشف مدى الجهد الجبار الذي بذله "الكرباسي" إذا عُرف أن هذا الشعر قد تعدّدت لغاته، وتفرّعت أساليبه، فإحتوى إضافة إلى الشعر التركي على الشعر الأسطنبولي والآذري، وقد ألمّ "الكرباسي" بكل الترجمات للشعراء الأتراك والآذريين واستوفى شروط البحث فكان كتابه موسعاً ووافياً عن ملامح هذا الشعر ومحاوره واتجاهاته وأساليبه وموضوعاته.
وقد إحتوى الكتاب ــ إضافة إلى الشعر التركي في رثاء الحسين ــ على بحث موسع عن تاريخ اللغة التركية ونشوئها وتطورها والمراحل التي مرت بها، وخاصة التغيير الجذري الذي أحدثه "مصطفى كمال أتاتورك" بتبديل الحروف العربية باللاتينية.
وعن جذور هذه اللغة يقول المؤلف: إن اللغة التركية تعدّ من فصائل اللغة الآلتائية والتي ذهبت إلى اتجاهات مختلفة وكونت أسرة التوركية التي تشمل التركمانية والجفتائية والأويغورية والآذرية والآذربيجانية والقيرغيزية والتتارية والأوزبكستانية والبشكيرية والإسطنبولية التي كل منها اختصت بفئة منهم واستخدمت في منطقة معينة وأصبحت بعضها لغة الدولة أو اللغة الثانية أو الثالثة في دول متعددة اللغات.
ويضرب "الكرباسي" لذلك مثالا دل على عميق درايته وتوسعه في جذور وفروع هذه اللغة حيث يقول: إن إيران وحدها تنقسم فيها اللغة التركية إلى لهجات أو لغات فرعية كالآذرية والقشقائية والخُلجية والخراسانية والسنقرية والأفشارية وغيرها.
ثم يستعرض القبائل التركية ومنازل كل قبيلة على الترتيب من قرب الروم إلى المشرق في الجاهلية والإسلام والتي كونت بمجموعها الأمة التركية.
ورغم أن هناك دولتان فقط استخدمتا لفظة "ترك" كإسم رسمي لهما وهما تركيا وتركمانستان إلا أن هذا لا يعني أن اللغة التركية اقتصرت على هاتين الدولتين، بل الخارطة الجغرافية للغة التركية أوسع من ذلك بكثير.
ثم يستعرض "الكرباسي" تاريخ الشعر التركي وتراجم أسماء أكثر من مائتي شاعر كان لهم أثراً كبيراً في الشعر التركي ثم ينتقل إلى الغاية من الكتاب وهو ذكر الشعر الحسيني للشعراء الأتراك وغيرهم من الذين كتبوا باللغة التركية مثل: الشاعر محمد بن سليمان فضولي، ومحمد بن إبراهيم المعروف بحاج بكتاش ولي، ويونس أمره، ونسيمي علي بن محمد، وخطائي حيدر بن إسماعيل، وحيدر السيواسي، وهادي التبريزي وغيرهم، وقد ترجم لهم الكرباسي ترجمة وافية وترجم أشعارهم وصاغها في قوالب خليلية بقدرة فائقة وأسلوب جميل.
محمد طاهر الصفار