مكان صغير وفضاء رحب يحتضن الجميع بين جنباته نوافد مفتوحة تخرج منها الأحاديث وتتسلل اليها الأفكار ضجيج النقاشات يتناثر في زاوياه ملتقى الأصدقاء والاحبة وملاذاً للترفيه منصة لشرح التفاصيل والمواقف اليومية التي تواجه الأنسان تطرح فيها التساؤلات بحرية وسلاسة دون قيود بين الرفقاء يتبادل الجالسين فيه أطراف الحديث بما يهم شؤون حياتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية
تعد المقاهي مسرحاً لـ لقاء الثقافات المجتمعية المتعددة اذ يؤمها المثقفين والمفكرين والادباء والفلاسفة والعلماء فضلاً عن البسطاء من عامة الناس بعيداً عن الانحيازات الطبقية، هذه الرقعة الصغيرة من العالم بمثابة منصة تتيح لجميع الجالسين على ارائكها البوح بما يجول في خواطرهم ومشاركته مع الحاضرين لما فيها من مناخ حر وأذان صاغية لتخرج لنا بأفكار ثرية ورؤى جديدة كما أنها على أستعداد تام للتأقلم مع المتغيرات الثقافية في مختلف البلدان.
رحلة الى الماضي الجميل
لنسترق اللحظات ونسافر عبر الزمن ونعود بذاكرتنا إلى الماضي باحثين في تاريخ المقاهي الشعبية القديمة والتراثية في مدينة كربلاء المقدسة ومنها مقهى (الدفانة) او مقهى الحاج علي البناء.
وذكر الكاتب طه خضير الربيعي في حديث حصري لمراسل مركز كربلاء، "لقد كانت حاجه الناس قديماً لمكان يلتقون فيه ويجلسون للحديث وتبادل الآراء والأخبار، فوجدت المقهى والتي بقيت تسمى إلى عهد قريب ( الچاي خانه ) المأخوذة من العثمانية، لارتباط ذلك المكان بـ (الشاي)، فيما كانت تسمية المقهى عند الأجانب مأخوذة من حبوب القهوة، اذ يطلقون على هذه الاماكن أسم المقاهي لانهم يميلون إلى القهوة اكثر من الشاي على عكس العراقيين في كربلاء هناك الكثير من المقاهي التي نشأت وانتشرت بين أزقة المدينة وشوارعها".
بماذا تميزت المقهى؟
وأضاف الحاج حسن هاشم الحفار في حديث لمراسل مركز كربلاء إن "مقهى الدفانه الواقع في ساحة الميدان سابقاً (مجمع الكوثر)حالياً، وتتوسط شارع الجمهورية أسسها الحاج (علي البناء) في أربعينات القرن العشرين وكان يساعده في العمل أبنه (عبدالله البناء)، تميزت المقهى بأنها احتضنت جميع طبقات المجتمع الكربلائي من المثقفين والأدباء، لكن العامل الأبرز لشهرة هذه المقهى هو ارتباطها بأصحاب مهنة (دفن الموتى) فهم الغالبية العظمى من مرتاديه لذا أصبحت لفظة الدفانة هي التسمية الملازمة لهُ، استمر المقهى لمدة ٢٠ عام في ذات المكان قبل أن يتحول المقهى إلى محل صغير
في الجهة المقابلة لمبنى الاورزدي القديم مقر تكية (عزاء العباسية) في الوقت الحالي بسبب التوسعة التي شهدتها ساحة الميدان آنذاك وتغير معالمها، لينتقل المقهى مرة أخرى في عام ١٩٨٦م إلى منطقة باب طويريج قرب علوة الطحين وتحديداً في بناية الحاج حياوي الحفار وهو احد رواد المقهى القدامى، ليكون ذلك المبنى هو المقر والملتقى الرئيسي لأصحاب هذه المهنة، أستمر هذا المقهى حتى استحداث نظام المكاتب الخاص بالدفانه، ومن أبرز الشخصيات التي كانت ترتاد المقهى الحاج محمد حسن الحفار مسؤول الدفنيه والحاج حماده محمد علي و الحاج حياوي جواد وحسوني مسلم ومحسن عبيد ونجم عبسي والحاج عبود الحفار".
الية العمل:
وأردف طه الربيعي إن " الدفانة كانوا يقيمون في المقهى لساعات متأخرة من الليل يتناوبون فيما بينهم حتى موعد أغلاقه بانتظار الأخبار التي تشير بأن شخص ما قد فارق الحياة ويحتاج إلى من يضع جسد في مسكنه الأخير، وكان الحاج علي البناء يرسل أبنه عبد الله للدفانة في بعض الأحيان التي يغيب فيها أصحاب هذه المهنة عن المقهى حين يحتاج اليهم الأهالي في دفن شخص أنتقل إلى جوار ربه ولم يستطيع ذويه من العثور على أحد منهم".
وتحدث الربيعي" الحاج علي البناء كان من الشخصيات التي تتمتع بالحس الفكاهي ومعروف بلطف أسلوبه في التعامل مع زبائنه وأشتهر بين اقرانه بروحه المرحة ونكاته التي تزيد الجلسة متعة اذ يحبذا الزبائن تبادل الحديث معه باستمرار ويتسامرون معه لساعات. وبسبب كثرة زبائنه كان يحصل ضجيج هنا وهناك إلا أن الجالس فيها كان لابد أن يحصل على معلومة جديدة او حكمة يستمع اليها لأول مره وقد يستفاد منها في المستقبل في هذا المقهى كانت تشب معارك كلامية توحي للجالسين في أروقة من الغرباء بأن شجاراً ما سيحدث دون أدنى شك ولكن سرعان ما تتبد تلك الشجارات وتتحول خلال دقائق إلى نوبات هستيرية من الضحك".
وأوضح الحاج محمد حسين الحفار مأمور الدفنية رحمه الله في حديث تابعهُ الموقع الرسمي للمركز إن "من المشاهدات الطريفة أن مجموعة من الرجال كانوا جالسين في مقهى الحاج علي البناء المقابل لباب قبلة الإمام الحسين-عليه السلام- جرَّهم الحديثُ إلى ما يقع في المقابر لا سيما في الليالي الحالكة ، ولكن أحد الجالسين واسمه عبد الحق الموصلي راح يستهزئ بما يقال ، وأعلن استعداده لفعل أي شيءٍ يطلب منه وفي أي وقت ، فاتّفق على أن يذهب إلى الوادي ويدق مسماراً في عتبة مقبرة في وسط الوادي ، فذهب الرجل بإقدام وكبرياء ، ظن الآخرون أنهم خاسرون لا محالة، وإنه فاعل ما طلب منه. وصل عبد الحق الموصلي إلى المقبرة المقصودة، وبرك بالقرب منها ووضع المسمار على العتبة ولم ينتبه إلى حاشية ردائه فوق العتبة فطرق على المسمار بقوة حتى غاص المسمار إلى آخره في العتبة، فنهض بقوة ليغادر المكان، فإذا به يسحب إلى العتبة بنفس القوة، فأطلقها صيحة مدوّية ليخمد بعدها إلى الأبد، وقد سمع المراهنون الذين وقفوا خلف جدار المقبرة دون علمه تلك الصيحة .