لم يشهد العالم الإسلامي إن لم يكن الإنساني بمجمله، ظهور شخصٍ دعا وسعى ومارس العلم كما فعل الإمام الصادق "عليه السلام" من خلال تأسيسه لأكبر مدرسه فقهية في تاريخ الإسلام تتلمذ فيها على يديه الكريمتيّن آلاف مؤلفة من التلاميذ الذين تزعّموا بدورهم مذاهب ومدارس خاصةً بهم كـأبي حنيفة النعمان ومالك بن أنس وسفيان الثوري وجابر بن حيان وغيرهم.
نسبه ونشأته
ولد سادس الأئمة المعصومين الشهيد المظلوم جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب "سلام الله عليهم أجمعين" في مدينة جدّه رسول الله "صلى الله عليه وآله"، عند شروق شمس السابع عشر من شهر ربيع الأول سنة 80هـ، لأمٍ طاهرة هي السيدة "أم فروة" فاطمة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر، والتي أسمته بـ "جعفرٍ" تيمناً بجدّه الشهيد جعفر الطيار "رضوان الله عليه" حسب بعض المصادر(1)، ولُقِّبَ بالصادق، والفاضل، والطاهر، والقائم، والكامل، والمنجي ، فيما كان يُكنّى بعدة كِنى منها: أبو عبد الله (وهي أشهرها)، وأبو إسماعيل، وأبو موسى، ومما جاء في فضل ولادته هو ما أفادت به بعض أسانيد الأمامية أن النبي محمد "ص" قد تنبّأ شخصياً بهذه الولادة، وأنَّه هو من لقبّه بـ "الصادق" ودعا إلى إتباعه بدلاً من "جعفر" آخر بعده يدَّعي الإمامة إجتراءً على الله وكذباً، ووصفه بـ "الكذاب المفتري".
علمه ومنهجه الإجتهادي
عُرِفَ عن الإمام الصادق "ع" لدى جميع المسلمين بعلمه الغزير، وتقواه الرفيعة، وعبادته الخالصة، فكان قد جمع الفضائل كلها وحاز المكارم جميعها، وسبق الدنيا بعلومه ومعارفه رغم التضييق الذي وقع عليه من قبل الطاغية العباسي "المنصور الدوانيقي" الذي لم يتحمل أن يرى تهافت الناس عليه وتعظيمهم إياه حتى بعد بلوغه أواخر الستينيات من العمر، رغم أنه كان قد قال فيه ذات مرة إنّ "جعفر بن محمّد هو ممّن قال الله فيه: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا)، فكان ممن اصطفى الله وكان من السابقين بالخيرات"، فيما قال مالك بن أنس عن الإمام "ع": "ما رأت عين ولا سمعت أذن ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمّد الصادق علماً وعبادة وورعاً" (2)، فضلاً عمّا ذكره عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي نقلاً عن أبيه، قوله: "جعفر بن محمّد ثقة لا يُسأل عن مثله".
إستشهاده "عليه السلام"
روي عن أمين سرّ المنصور الدوانيقي وصديقه محمد بن عبد الله الاسكندري أنه قال: "دخلت على المنصور ذات ليلة، فوجدته جالساً على فراشه والشموع معلقة بين يديه وهو يتنفس تنفساً بارداً كهيئة المهموم والمغموم، فقلت له: يا أمير المؤمنين ما هذه الفكرة؟ فقال: يا محمد اني قتلت من ذرية عليٍ وفاطمة ألفاً أو يزيدون وقد بقي سيدهم وزعيمهم جعفر بن محمد، وإنني عازم على قتله، فقلت له : يا أمير أن جعفر بن محمد رجل قد اشتغل بالعبادة عن طلب الملك، فأجاب المنصور: أنا أعلم يا محمد إنك تقول بإمامته وأنه إمام هذه الامة ولكن الملك عقيم"، فعمد المنصور بعدها الى وسيلة دنيئة لقتل إمامنا الصادق "ع" عبر توجيه الأوامر الى والي المدينة المنورة أن يدس السم الى الإمام "ع" في طعامه (3)، وهو ما حصل فعلاً، فكان من نتائج هذه الوسيلة أن بقي حفيد رسول الله يوماً أو يومين يعاني آلام السم الى أن حضرته الوفاة في الخامس والعشرين من شهر شوال سنة مائة وثمان واربعين، ليُدفَن الى جنب أبيه الامام الباقر "ع" في بقيع المدينة وسط ضجيج الناس عليه بالبكاء والنحيب وإلقاء قصائد الرثاء، فسلام عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حياً.
المصادر
(1) الإمام جعفر الصادق، عبد الحليم الجندي، ص130.
(2) تهذيب التهذيب: ج2، ص104 .
(3) بحار الأنوار:ج2، ص178 .