إنَ أهم ما يُلزم على الإنسان في هذه الحياة بعد العلم بحقيقتها وآفاقها وغاياتها من خلال الإيمان بالله سبحانه ورسله الى خلقه والدار الآخرة هو توعيته لنفسه وتزكيته إياها، بتحليتها بالفضائل وتنقيتها من الرذائل، حتى يتمثل علمه في عمله واعتقاده في سلوكه، فيكون نوراً يستضيء به في هذه الحياة ويسير بين يديه وبإيمانه في يوم القيامة.
فلا بد للإنسان من تطبيق قيم الإدراكات في نفسه مع مقتضياتها الفطرية.
ويتفرغ على ذلك أن على المرء أن يبلغ بدرجة علمه إلى اليقين، فلا يكفي للمرء أن يذعن بالحقائق الكبرى والقيم الفاضلة في الحياة، بل لا بد أن تكون تلك الحقائق ماثلة أمام عينيه بحيث يعبد الله سبحانه كأنه يراه، وينظر إلى آخرته كأنها تأتيه غداً، وينظر إلى أكل الحرام بأنه يأكل النار- كما في آية اليتامى- وينظر إلى مشهد الحساب والجنة والنار حتى كأنه يعيشها كما وصف في أحوال المتقين، فيكون لعلمه بها المكانة المناسبة لها، كما لا بد أن يكون شعوره بالقيم الفاضلة على حدّ شعوره بالمعاني المحسوسة المناسبة لها، فإذا انتقص أخاه ليثبت لنفسه فضيلة الخلو عن تلك النقيصة فكأنه أكل من لحمه ليشبع نهمه كما في آية الغيبة.
وكذلك ينبغي أن يرتب على كل ما دون العلم الجازم من مراتب الإدراك ما يناسبها، فإن عدم بلوغها إلى حدّ العلم لا يوجب عدم وجود أثر لها، فعلى الإنسان أن يرتب عليها ما يليق بها بالقياس إلى ما تعلقت به.
والواقع أن الإنسان لو لم يبلغ بعلمه في أمر حقيقة هذه الحياة- من الله سبحانه والدار الآخرة- حدّ اليقين لكفى ذلك في أن تنقلب حياته كلها، ولعل هذا هو السر في التعبير بالظن في قوله تعالى: (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)، فيكون المراد به- والله العالم- الإشارة إلى أن الإنسان لو كان وقع العلم بالله سبحانه والآخرة في نفسه بمقدار وقع الظن في نفسه كفى أن يكون ذلك باعثاً له على اختلاف أحواله.
بل لو بلغ وقع إدراك الإنسان لتلك الحقائق حدّ وقع الاحتمال لكفى أيضاً في اختلاف أحواله لشدة أهمية تلك الحقائق والآثار الخطيرة المترتبة على واقعيتها.
المصدر: أصول تزكية النفس وتوعيتها، محمد باقر السيستاني، ج1، ص33- 34.