إنَ أهم ما يلزم على الإنسان في هذه الحياة بعد العلم بحقيقتها وآفاقها وغاياتها من خلال الإيمان بالله سبحانه ورسله الى خلقه والدار الآخرة هو توعيته لنفسه وتزكيته إياها، بتحليتها بالفضائل وتنقيتها من الرذائل، حتى يتمثل علمه في عمله واعتقاده في سلوكه، فيكون نوراً يستضيء به في هذه الحياة ويسير بين يديه وبإيمانه في يوم القيامة.
حقيقة الحكمة هي أن تضع كل شيء في موضعه وتحلَّ كل أمر في محلّه، وهي مفتاح كل خير في الحياة، لأن هذه الحياة ليست مجموعة حوادث اتفاقية من غير ارتباط بينها، بل لها نظم وقوانين تجري عليها، فمن أحل الشيء فيها في محلّه فقد انتفع به وترتبت عليه بركته، ومن أحلَّه في غير محله فقد أحبطه أو أضر بنفسه، قال سبحانه وتعالى في تذكير عباده (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ).
وقد خلق الله تعالى الإنسان مزوداً بأصل هذه الصفة ومنحه قابلية النموّ والارتقاء فيها، وبعث برسائله إلى عباده من خلال رسله لتحفيز روح الحكمة فيه وتعليمه لجُمَلَ من أصول التعاليم الحكيمة إعانة له في هذه المسيرة ومن ثمَ قرن الكتاب بالحكمة قرن العلم بالتزكية، قال سبحانه في شأن من سبق من رسله والصالحين من عباده: (فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)،( وَلَمَّا جَاءَ عيسى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ)، وقال لعيسى (عليه السلام): (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ)، وقال عن داود (عليه السلام): (وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ)، وقال عن رسوله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم): (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ)، إلى آيات عديدة أخرى.
المصدر: أصول تزكية النفس وتوعيتها، محمد باقر السيستاني، ج1، ص23-24.